كالطائرالدوري وعليه آثارالسفر وجدته في علبة البريد ينفض جناحيه (دفتيه) من وعثاء السفر.. آت ليلقي بباقة قصائده وتغاريده الشرقية على مسمعي.. وبمجرد ما شرعت دفتي ديوان (ولا..أشهى ) ألفيته ولاأشهى .. كانت الحدائق منسابة على فسحة البياضات الآسرة.
ومنذ الوهلة الأولى راعني ملمس الإضمامة الناعم وعتبة غلافها التي كسرت تلك الموضة السائدة في تقاليد النشر وآثرت أن توثق إطلالتها بالصورة الفوتوغرافية الحية المجردة من كل إيحاء إضافي .. إلا إيحاء الحركة بما توحي به هذه الإشارة من خطاب ودلالة عميقة تجاوز الحجب المألوفة برمزيتها وماديتها: ( إن الله بسبب القصيدة لم يعذبني ولابسبب خصلات أظهرتها قليلا ص 95 ) وهذه الإطلالة من خلال نافذة الجدار الرابع تيمة محورية من بين قائمة من التيمات التي تتلون بتلاوينها المقاطع الشعرية بين وشم الطفولة وهموم الجسد وأشجان الغربة وتقلبات العشق .
إن مقاربة تجربة الشاعرة هيلدا إسماعيل من خلال ديوانها (ولا.. أشهى ) تخلق جهازها النقدي الخاص بها، وهوجهاز لا يأتمر بالأدوات المتداولة على مستوى الكتابة النسائية بل إنه جهاز متعدد المناولات ورافض لضواط القراءة المختبرية باعتباره نصا واحدا إذا ما حددنا زاوية الرؤية النقدية من إخلال ختراق التجربة النسائية المشرقية كساحة ضوء بهدف تنشئة صورة قد تختلف من شاعرة إلى أخرى، وهو من جانب آخر إضمامة دواوين على شكل مسيجات ( برقيات) خاطفة بخطاباتها التي لاتكتفي بنفسها باعتبارها وحدات داخل النص الكلي ،ولكن من خلال تواطؤ البياضات بما هي جزء من البنية السردية الشعرية له دلالته وخطابه وبعده الثالث.
وكما سبقت الإشارة آنفا تتوزع تيمات ديوان ( ولاأشهى ) بين :
الطفولة
بذاكرتها وأبعادها السيكولوجية والإجتماعية باعتبارها فعلا تأثيثيا أساسيا في التجربة الشعرية لهيلدا إسماعيل والكثيرمن الشاعرات العربيات .. طفولة هيلدا تستقي ماءها من إحتمالات عشق مبكرمشبع بالنزق بالرغم من سلطة الأب الرمزي
لجدتي
(كحل) أزرق
بين أهدابي
أخبؤه
لكن ...
ابي
دائما يسرق عيني
ويعيد ( الكحل) إلى المرود
إنها سلطة محاءة تمرعلى تورمات الإحتفاء بالجسد لتعيده إلى الدائرة التي لاتتسع إلا لقائمة طويلة من الطابوهات والأغلال المجتمعية وبين هذا وذلك تكبرالمسافة أو تتسع الهوة وتنتفي الجسورللعبورإلى الضفة الأخرى كفضاء محتمل لسطح يعلوعلى واقع محاصرومطوق بمتاريس ويرتفع السطح عن كل ذلك وهناك تعلوأيضا وتحلق الرغبات .
الجسد
يحضر الجسد بأبعاده الفيزيقية وأبعاده الرمزية .. الجسد الفيزيقي كذات تحتفي بنتوءاتها وتورماتها الشهية ومناطق جاذبيتها وإغوائها .. والجسد في بعده الرمزي كمكون ناتئ بامتيازفي الحقل الدلالي للمتن الشعري في الديوان .. الجسد في غربته .. غربة الداخل وغربة الخارج .. إنه الداخل كمنطقة حذرتجوال والخارج كيوميات تحاصرها الغربة اللندنية ... إنه إذن جسد نمطي .. بضاعة للمتعة ، ولعل أنتؤ قصيدة تتجلى فيها مأساة الجسد النسائي قصيدة ( نتجاسد ) بما قد يحمله العنوان من تلاحم متكافئ تتحقق من خلاله عدالة الرغبة المقتسمة لكن القصيدة وكل الصور الفيتيشية تقدم لنا جوابا عن جسد يحمل جراحه وآلامه واختلالاته وغربتيه ...
نصفي الحلم
والآخر
وقت يتكتك بأضلاعي
تك
تك
تك
يفسد ترتيب العظام
الجسد هنا لايعشق زمنه الجواني المنسجم .. إنه زمن يمتد إلى هدم الذات من الداخل في الماضي ــ البارحة ــ حيث التجاسد متأخريجيئ وحيث جسد الرجل الذي صافحها ومضى . ولم يترك جسدها سوى أثاث مخذول أولافتة منبعجة بل إن المرارة ترتقي إلى ذروة الخيبة ولعل قمة التراجيديا النسائية في الديوان حين تقول في الشطر الثاني : نصف إمرأة للبيع ...
أجل نصف إمرأة لأن النصف الآخرلايحقق التجاسد والتكامل مع النصف الآخر.
الغربة
لعل اقسى ما يمكن أن تعيشه الذات الإنسانية هو لحظات الغربة لكن في واقع المرأة العربية فالغربة غربات .. تتوحد في الألم والمكابدة اليومية وتتلون بتلاوين الأمكنة والفضاءات . المرأة تعيش غربتها الداخلية داخل دائرة إقصاء إجتماعي وسياسي أيضا وغربة خارجية أقسى بمستويات مختلفة غربة الذات ..غربة اللغة .. غربة القصيدة ورغم أن إشارات هذه التيمة وعلاماتها لاتتبدى على المستوى اللغوي مثلما هو الشأن في محوري الطفولة والجسد فإن حضورها في الحقل الدلالي لبعض النصوص لامراء فيه .. الغربة كما تعيشها القصيدة الهيدالية في لندن أقل حدة حيث وجدت في الأوكسيجين الشعري ملاذا لملء الرئة التي أكسدتها ولوثتها إكراهات الموروث واصفاد الهوية .
واخيرا نعتقد أن قصائد ( ولا.. أشهى ) بشكلها الخاطف للأبصارعبربنيات شكلية تنتصرللخطاب المقل المقتضب والعميق والذي لاشك أنه متح من ومضات الهايكووإشاراته الصادمة بعيدا كل ترهل ما جعل ديوان (ولا.. اشهى ) لهيلدا إسماعيل رسائل برقيات إحتجاج ولوم وعشق
|