نوستالجيا
تكسير الجدار الرابع
مرت زهاء ثلاث سنوات على رحيل الفنان المسرحي محمد تيمد . ولي مع هذه الشخصية الإستثنائية طرفة جديرة بالإثارة هنا في هذا العمود بما تعريه من جسارة ومشاكسة طفولية لإبداعه كنت بريئا منها وقد كان تكسيري للجدار الرابع في مسرحيته [ حبال ، خيوط ، شعر] منزها عن كل سبق إصرار وترصد ...
تعرفت على الراحل محمد تيمد بإعدادية الرياض بمدينة مكناس في أوائل السبعينات ، كان يبدوفي عيوننا الغريرة أستاذا لايشبه الأساتذة الآخرين المتكلسين في غيابات الكوستيمات وربطات العنق مثل ألسنة مشلولة .. كان مبدعا متفردا في طبعه وهندامه .. بوهيميته التي كانت مسكونة بملاحقة مالايلاحق .. وغليونه [ البيبة ] لايفارق شفتيه ، وجسده الضامرأسيرمعطفه الرمادي الطويل ذي المربعات السوداء.
كل صباح عند مدخل الإعدادية كنا نلمح عينيه المتورمتين تأجج لون السهاد القرمزي ، ونقع الترحال الليلي في شوابك الركح . ولم نكن نعلم مع كل أسف ونحن وقتئذ ندشن عتبتنا الأولى في الصف الإعدادي بأننا نياوم مبدعا إستثنائيا جديرا بالمزامنة .. قابضا بجلد على جمرة المسرح ، مكابدا قلق الأسئلة المرحلية المهووسة بالتجريب والتأسيس لفعل مسرحي وطني تنصهرفي حركته مقومات الهوية وإلحاح المثاقفة ...
كان محمد تيمد يمر علينا بكل هذه الحمولة الحضارية أمام الباب الحديدي ، في الساحة ، بين الصفوف ، في الأدراج ، في الممرات الإدارية ونحن نجهل كل الجهل البريئ بأننا كنا نحظى بالتملي إلى قناع مسرحي مغمورا بالإرغام
وحدث مرة أن رأيت إعلانا لعرض مسرحي بقاعة سينما الريف المجاورة لإعدادية الرياض ... قلت في نفسي كل شروط الفرجة بالمجان ، فالقاعة لاتبعد أكثر من بضع خطوات عن الإعدادية ثم إن العرض المسرحي [ حبال .. خيوط .. شعر] بالمجان ، لم تكن القاعة مملوءة كما كانت العادة في مسرحيات سهرة السبت ... فقط بعض الأشباح متناثرة هنا وهنالك .. أشباح منكمشة على نفسها في الكراسي الجلدية الحمراء .. ظلام وصمت مطبقين وطقس شبيه بليلة باردة ...
كان بالنسبة لي أول عرض مسرحي أعيشه بل أواجهه مفعما بالدهشة الأولى .. وأعترف أن شذوذ المشاهدة وغرابة التجربة دفعاني إلى الإستخفاف بجدوى المتابعة لأننا لن نشب على تربية فنية ترشح لدي قيمة مثل هذه المشاهد المأساوية التجريدية والجدية فوق اللزوم ولم أشعر إلا بصرخة تنفلت من أعماقي لتردد لازمة كان الممثلون بصدد ترديدها بالتناوب وعلى حين غرة شعرت بالخجل الممزوج بالنشوة وبيد تصفعني فجأة على قفاي وتجرجرني من ياقتي إلى الشارع ...
خرجت نادما على الإذعان لنداء شيطاني الصغير.. وبعد سنوات عديدة إلتقيت صدفة الراحل محمد تيمد في السوق الداخل بمدينة طنجة .. عانقته بحرارة وتشممت في معطفه الرمادي الطويل رائحة غليونه .. نفس الرائحة السبعينية .. تفرست في ملامحه فألفيته ذات الوجه مابدل تبديلا ثم ذكرته بوقاحتي الصغيرة فقال لي ساخرا [ حسبك أنك كسرت الجدار الرابع قبل أن تتعرف على بريخت ]
صدر بجريدة المنظمة بتاريخ 21 يناير 1998
|