(مراتب الغربة)
متاعب الجنس والهجرة والبطالة
عبده حقي
لم يكن خروج الصحافي مختارالزياني قصصيا مفاجئا بالنسبة لي على الأقل .. فصداقتنا قد وطدتها أواصرالقصة القصيرة منذ أواسط الثمانينات في غرفة القص المطلة على محيط أصيلا ، وقد كنا معا قاب قوسين أوأدنى من إصدارعمل قصصي مشترك أواخرالثمانينات على غرارمجموعة (التماثيل والهديان) .. ولم يكن مفاجئا لي أيضا لأن صاحبنا صائغ ذهب وفضة قبل أن يكون صائغ قصة مثله في ذلك مثل القاص السوري زكريا تامرالذي قهرألواح وقضبان الحديد قبل أن يقهرألواح معدن السرد القصصي ... ومثله مثل الكثيرمن الكتاب الشباب .. جيل الثمانينات الذين أطلقوا أولى صيحاتهم الإبداعية الأدبية على صفحات الجرائد الوطنية المفردة للكتاب الصاعدين كصفحة : (على الطريق) في جريدة الإتحاد الإشتراكي و(الباب المفتوح) في جريدة العلم و(إبداع ونقد) في جريدة أنوال .
كان آخر نص قصصي قرأته للمختارالزياني فيما أذكرموسومــا بعنوان (حلم حنظلة الصغير) الذي نشره أواخرالثمانينات بجريدة أنوال . ومنذ ذلك الوقت / منذ ذلك النص تفرقت بنا سبل الحياة وحدث ما حدث لصاحبنا مع ضريبة النضال ... وبعد صمته الطويل والمكلوم كنت أتوقع دائما ، بل أكاد أقول ظللت قابعا على عتبة (باب البحر) أنتظربين الحين والحين أن يغمرنا مختارالزياني بإضمامته القصصية البكربعد أن أحجم عن نشرنصوصه على صفحات الملاحق الثقافية الوطنية برمتها .. غيرأن صمته كان لحاجة في نفس قصته ، وأخيرا جاءت (مراتب الغربة) .. إضمامة قصصية صادرة عن منشورات وزارة الثقافة ضمن سلسلة الكتاب الأول سنة 2009 . وإذا كان مختارالزياني قد تأخر في فتحه القصصي البكرفذلك لأنه ود أن يمهل مشروعه ولا يهمل أشغولته القصصية حتى يتسامق مشروعها إلى مراتب النضج ورصانة الحكاية ورزانة السرد .. السرد الشاهد على
على عصره وحين يتوحد الصحافي بالقاص أو القاص بالصحافي فمن دون شك أن أشغولة القصة ستأتي توثيقا لإعتمالات الحراك اليومي في كل تفاصيله الكبيرة والدقيقة ، بانكساراتها وأحلامها .. في إنتمائها .. في غربتها .. ستأتي وفية لمشاهدات اليومي وقساوة معيشه .. وما أقساه من معيش حين تكون الغربة داخل مدينة معزولة (أصيلا) حيث تحتدم مكابدات الأعماق لتصيرغربة في الذات ترتد من خارج معقلها إلى غربة جوانية تتلاطم أمواجها في (بحرشمالي متوسط) كجدار عازل من ماء يشكل حدا فاصلا بين الهنا والهناك : ( لم يكن غيرالبحريبتلع تفاهة الزمن في هذه المدينة .. نهرب إليه من شوارع البطالة)
والكتابة عن البحرهي من بين أغزر وأخصب الكتابات الأدبية التي دونتها القصة القصيرة في المغرب عبرالعديد من التجارب الإبداعية التي إجترحت تيمة البحركشعرية مكانية مشرعة على الماء عند محمد زفزاف (قبور في الماء ) و(الماء المالح) عند محمد الدغمومي و(رحيل البحر) عند محمد عزالدين التازي ...إلخ البحرليس باعتباره تيمة مهيمنة ولكن باعتباره فضاءا / وعاءا لتيمات متعددة فهوالملاذ للعشق / والقنطرة للهجرة / ومصدرالرزق ، في مقابل الهروب من ثالوث الحرمان والبطالة واغتراب الذات .. إنه البحرالذي يتسع لمساحة الحلم (هناك وراء البحركنا نحلم ) عن قصة المرأة الملونة ص 10 أوقد يخفي في تلافيف خلجانه العميقة مكرا أزرقا ليكون قبرا كبيرا للحالمين بالصيد الوفيرأوالهجرة المظفرة مثلما حدث لابن ميمونة : حيث (مات غرقا ، ربما إرتطم رأسه بأحد الصخورأو داهمته غيبوبة وهويصارع الأمواج بعدما أوصله قارب إلى مشارف إسبانيا ) الصفحة 54
ومن العلامات المائزة في هذا المستوى تماهي البحربالهجرة .. البحركمعبرأو كحد فاصل بين بؤس (الماوراء) وحلم (الما أمام) تارة في إطارديالوج وتارة في إطارمونولوج طافح بالرغبات والإنكسارات . ففي قصة (الهوة) يقول السارد في همس مونولوجي (سوف أسافر وأجرب حظي هناك . غمغم وهو يجرخطاه في الفراغ القاتل وبدأ يشعر بالهوة تتسع بداخله كل يوم (ص 56 ) والغمغمة هي ضرب من الهمس والمونولوج الداخلي الخفيض المبهم والمرموز والممهور بالهذيان الذي يصدرعن متكلم قد يكون محاورا لنفسه أويكلم شخصية وهمية في مخياله .
ومن مراتب الغربة .. مرتبة العشق .. لكن العشق بقدرمايفضي إلى البحث عن الإكتمال المفقود والتوحد على سريرالرغبة فإنه يقود أيضا إلى تجريد الجسد الشبقي الإيروتيكي من هويته ويلقي به إلى العدم . يقول السارد (كنا نرتقي مدارج الرغبة حتى نشارف مدارج الغربة فتغدو هي إمرأة بلا هوية .. إمرأة أولى يحملني بياض جسدها الناصع صوب فيافي العدم ) حيث العدم فقدان وجود وهوية إن لم يكن هنا إنفقادا كليا في فراغ وخواء يومي قاتل حيث غول البطالة والأجساد المرتخية على الكراسي .. الأجساد المهددة بالموت المادي (البحر/الغرق) أو الموت الرمزي (الصمت) :
ــ كيف دايرا المارية اليوم ؟
ــ طالعة (يجيب سعدان باقتضاب شديد دون أن يلتفت للرجل ثم يدخل ثانية في جراب الصمت .
ومراتب الغربة غربات .. غربات لها أوجه عديدة ، فهي تارة سياسية وموضوعها سارد غريب عن السلطة التي تمثله وتارة غربة إيديولوجية تقود السارد إلى حيث تريد لا إلى الإتجاه الذي يفيده وتارة غربة لغوية حيث اللغة تقصرعما يريد السارد قوله وغربة جنسية حيث يقوده العشق إلى العدم .
إن تجربة القاص مختارالزياني تقع على جسرتجربة جيل الثمانينات وجيل التسعينات .. تجربة البين بين حيث تجمع بين أسئلة أفق ثمانيني تهيمن على رؤيته الحيرة والتردد الواقعي والخيالي وجيل تسعينات يفتتن بجمالية اللغة وشعرية العبارة وتشكيل الصورة المختلفة . وضمن هذا التصور تندرج تجربة المجموعة القصصية (مراتب الغربة) .
ـــ مراتب الغربة : مجموعة قصصية
ـــ مختارالزياني
ـــ منشورات وزارة الإتصال
ـــ سلسلة الكتاب الأول سنة 2009
|