حتى لاننسى نجيب محفوظ
بحلول الثلاثين من سبتمبر2007 يكون قد مرعام على رحيل عميد الرواية العربية نجيب محفوظ ، واستحضارنا لروح نجيب محفوظ لم يأت باعتباره أول أديب عربي ولربما آخرأديب عربي حازعلى جائزة نوبل للآداب حتى لوانعقدت مئات المؤتمرات ( الكامب ديفيدية ) في هذا القرن والقرون القادمة بل لكوننا نحن العرب من أفدح أخطائنا التاريخية وأسوء مصائبنا أننا ما إن نهيل الثرى على فقيد منا ونقول آمين وندير ظهورنا لباب المقبره حتى ننسى الرجل ونسحق مجده وتاريخه الحافل بالعطاء ونمرعلى دفاتره بممحاة كبيرة إسمها الجحود مثلما فعلنا مع نزار قباني والسياب ومحمد شكري والقائمة طويلة من أسماء الأدباء والمفكرين العرب الذين أيقظواالعالم برنين شغبهم الجميل …
عام إذن مرعلى رحيل نجيب محفوظ فماذا أعد المثقفون العرب لهرم الرواية العربية ؟ كم من المواعيد التي تمت أجندتها لتأريخ تجربته الضخمة ؟ كم من الدراسات النقدية الروائية التي أعدتها مراكزالبحوث الأدبية العربية حولها ؟ كم من الجوائز التحفيزية على طول الخارطة العربية أقيمت من أجل الإحتفاء به ؟ كم من مدرج في الجامعات العربية سمي ب (قاعة نجيب محفوظ ) ؟ كم من شارع عربي يحمل اسمه فيما لازال العديد من الشوارع العربية تحمل أسماء مستعمرين ؟ وأخيرا وهذا هوأم الأسئلة ماذا يعرف جيل ( الراب ) العربي عن عن شخصية وبورتريه ومسار نجيب محفوظ منذ الولادة إلى آخر نفس في حياته بالمستشفى العسكري بالقاهرة ، لهؤلاء وللقادمين غدا وللذين مايزالون فكرة في الأرحام ووفاء منا لروح نصف قرن من الإبداع الروائي المتواتر نقدم هذا البورتريه حتى لاننسى نجيب محفوظ .
بالعاصمة القاهرة سيرى النورالروائي العربي الكبير سنة 1911 في كنف عائلة ميسورة تنتمي إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة .
تابع دراساته الفلسفية بجامعة فؤاد الأول . وفي سنه السابعة عشر سيجرب أولى محاولاته الأدبية والتي سينشرها على صفحات إحدى المجلات الثقافية أواسط الثلاثينات من القرن الماضي .
بعد حصوله على دبلوم الإجازة سينخرط في قطاع الوظيفة العمومية .
شكل تاريخ مصرالفرعوني القديم بؤرة اهتمام محاولاته الروائية الأولى ، غيرأن الفشل الذي لحق بهذه التجربة ، إضافة إلى تدهور الواقع الإجتماعي المصري بسبب الحرب العالمية الثانية دفع بالكاتب نجيب محفوظ إلى العدول عن مشروعه التاريخي الفرعوني والإهتمام أساسا بهموم الواقع المصري المعاصر …
في سنة 1952 سيدوي إسم الروائي نجيب محفوظ مع إصدار ثلاثيته الشهيرة التي ناهزت ألف وخمس مئة صفحة و ضمت ثلاث روايات هي على التوالي ( بين القصرين – قصرالشوق – السكرية).
بعد هذه الثلاثية سيترك الرواية إلى حين وسيهتم بكتابة السيناريو باعتبارها إنتاجا سنيمائيا يذرالكثير من الأموال …
في سنه الخامسة والأربعين كان نجيب محفوظ قد حقق شهرة واسعة على مستوى العالم العربي وخصوصا عقب إصدار ثلاثيته السالفة الذكر بين سنتي 1956 و 1957 بما أثارته من قضايا اجتماعية وسياسية عن واقع القاهرة منذ ثورة 1919 إلى آخرأيام النظام الملكي على عهد الملك فاروق إلى الإنقلاب الذي نفذه الضباط الأحرار وقاد محمد نجيب إلى سدة الحكم .
شكلت رواية ( أولاد حارتنا ) التي نشرت سنة 1959 منعرجا هاما في مسار نجيب محفوظ الروائي المحلي من جهة والعربي والعالمي من جهة ثانية ، فقد استطاعت هذه الرواية أن تجسر لعلاقة بين إمكانيات الكتابة الرمزية المشفرة بقصد تعرية واقع مصري تهيمن عليه سلطة عسكرية مستبدة ثم من جهة أخرى تقديم صورة متشائمة عن العهد الجمهوري الجديد .
نشرت رواية ( أولاد حارتنا ) على أجزاء في جريدة الأهرام القاهرية سنة 1959 ثم نشرت للمرة الثانية سنة 1967 .
فجرت هذه الرواية جدلا واسعا وساخنا في الأوساط الثقافية والسياسية والدينية على الخصوص ما جعلها تتعرض للكثير من الإنتقادات اللاذعة والإتهامات التكفيرية من طرف علماء الدين والجماعة الإسلامية ما أدى بها أخيرا إلى المنع والمصادرة لكن وبعيدا عن القاهرة تم إصدارها بإحدى دورالنشر في بيروت سنة1967 .
لقد أسهم كثيرا ذلك الجدل الفكري والنقدي حول رواية ( أولاد حارتنا ) في شهرة نجيب محفوظ بل إن كل تلك المضايقات لم تؤثرعلى مساره الإبداعي فقد نشربعدها العديد من القصص بالجرائد المصرية وأصدرالعديد من الروايات بمعدل رواية واحدة في السنة وهكذا ظهرت روايات ( ثرثرة فوق النيل ) سنة 1966 و( ميرامار ) سنة 1967 و( اللص والكلاب ) سنة 1961 وتجب الإشارة إلى أن جل هذه الأعمال الروائية قد تحولت إلى أفلام سنيمائية مطولة أسهمت كثيرا في التعريف بالمجتمع والتاريخ المعاصرالمصري والعربي عموما خصوصا بعد نكسة 1967 سواء في أوساط الطبقة البسيطة أوالطبقة المثقفة .
وبالرغم من تقدمه في السن فقد بقي الروائي نجيب محفوظ حاملا لنفس الهم المصري / العربي ونفس الأسئلة القلقة والكبيرة ونفس الرؤية مثله في ذلك مثل جيل شباب ما بعد النكسة كجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم
وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن رواياته اللاحقة استطاعت بنفس الإصرار أن تحقق قدرا عاليا من الجمالية والعمق ، مستلهمة كل إمكاناتها السردية من عمق حارات وأزقة وفضاءات ومجتمع القاهرة على اختلاف شرائحه…
ويبقى الحدث السياسي البارز في حياة الكاتب الكبير نجيب محفوظ هو موقفه الإيجابي وإشادته بمبادرة السلام المصرية الإسرائيلية سنة 1979 دون أن ينسى طبعا انتماءه العربي ودفاعه عن قضيته الأساسية ( فلسطين السليبة) كما أنه في موقف آخرآزر أحد المسرحيين المصريين الذي تعرض للطرد من عضوية اتحاد كتاب مصر بسبب دفاعه عن مسلسل التطبيع مع إسرائيل .
في الثالث عشر من أكتوبر 1988 سيتوج هذا المسارالمتألق بحصوله على جائزة نوبل للآداب التي فتحت لكتاباته الروائية آفاق العالمية لكنها بالقدر التي وسعت من شهرته فإنها على المستوى الداخلي أعادت إثارة نفس الأسئلة القديمة الشائكة حول روايته ( أولاد حارتنا ) من جديد وقد بلغ شغبها الفكري إلى درجة محاولة اغتياله من طرف أحد المتطرفين من الجماعة الإسلامية سنة 1994 إلا أن الألطاف الإلاهية أبت إلا أن تمدد من عمر الأديب الكبيرنجيب محفوظ لأكثر من عشر سنوات أخرى ومن غرائب هذه النازلة أن الجاني اعترف أمام هيأة المحكمة أنه لم يقرأ الرواية موضوع الخلاف قط.
محاولة الإغتيال الفاشلة هاته كانت سببا في شلل أصاب اليد اليمنى لنجيب محفوظ ورغم هذه الإعاقة فإنه أستمر بنفس العزم في الكتابة عن طريق إملاء أفكاره على أحد متعهديه الذي كان يلازمه أينما حل وارتحل .
في الثامنة صباحا من يوم الثلاثين من أغسطس سنة 2006 ودعنا الروائي العربي والعالمي نجيب محفوظ وتوفي بمستشفى الشرطة بالعاصمة القاهرة من جراء فشلين كلوي ورئوي حادين .
رحل نجيب محفوظ بعد رحلة إبداعية امتد عمرها زهاء خمسين عاما ونيف وامتد مجموع ما راكمته من إبداعات حوالي خمسين عملا أدبيا بين رواية ومجموعة قصصية وقضايا فكرية وأدبية مختلفة .
|