وأول ما يثير فضول المهتم في هذا الأثر المتميز هو لوحة الغلاف التي صممها الفنان حسين موهوب بما هي عتبة دلالية لولوج متن البحث. وهي لوحة ذات عمق أبيض بياض الورق حيث تتحول ألفاظ اللغة إلى مجرة بدوائر خضراء بلون الخصب والعطاء ينتصب في وسطها كائن مسرحي مشرع الذارعين يحمل قناعا ويترك قناعا آخر لقدر السقوط وعلى الجانب الأيسر من الغلاف شريط يمتد على حافتي الغلاف، مرقط بنقط صغيرة خضراء تجسد بمعنى ما حضور الجمهور.
إن التجريب من المفاهيم التي اخترقت كل حقل المعرفة الإنسانية سواء في مجالات العلوم أو حقول الآداب والفنون، وقد كانت الغاية من ذلك الاختراق فتح آفاق جديدة من أجل تجاوز ما هو كائن وبالتالي تخطي واقع صار متجاوزا والمراهنة على استغوار الاتي عبر أدوات وآليات تخلق تركيبة مغايرة في مألوف النسق النموذج، بمعنى أن العملية التجريبية تتموقع بين ثابت البناء وتحول الهدم. غير أن أي فعل تجريبي بمجازفته هاته لا ينطلق من فراغ بل من محاورة الأنماط الإبداعية السابقة والقدرة على تطويعها وصهرها في بنية ما هو جديد، ومن هذا المنطلق ينهض عمل (خطاب التجريب في المسرح العربي على استراتيجية السؤال تعمد إلى النفخ في رماد الجوهر لكي تضعنا في عقر القضايا الساخنة التي تشغل الفضاء المسرحي العربي بكل تجلياته في خطوط ائتلافه كما في جزر اختلافه وبالتالي رفض المقولات الجاهزة التي قاربت الخطاب المسرحي العربي انطلاقا من وعي زائف وجزئي في الزمان والمكان. ونعتبر أن الدكتور عبد الرحمان بن زيدان من النقاد القلائل الذين اهتموا بإشكالات المسرح ليس فقط على الصعيد الإقليمي وإنما أيضا على الصعيد القومي، ولعل أن مشروعه النقدي في بعده هذا قد دشنه منذ عقد من الزمن بإصداره "أسئلة المسرح العربي" سنة 1987 عن دار الثقافة بالبيضاء، ثم يغمرنا سنة 1992 بكتاب "قضايا التنظير في المسرح العربي من البداية إلى الامتداد" عن اتحاد الأدباء العرب بدمشق. ومن السؤال إلى السؤال، من "أسئلة المسرح العربي" إلى أسئلة التجريب تمتد غواية البحث في الكيان المسرحي من أجل وضع القارئ العربي في الصورة الشمولية للإشكالات الأساسية التي تقلق المسرح على مستوى المفاهيم والخطابات ونحن بدورنا نطرح سؤالنا المركزي على الناقد عبد الرحمان بن زيدان حول ما يميز "أسئلة المسرح العربي" عن أسئلة "خطاب التجريب في المسرح العربي" بما هو أيضا لفيف من الأسئلة القلقة، ثم أما تزال نفس الأسئلة تحير الكائن المسرحي العربي منذ عقد من الزمن عرف فيه العالم والوطن العربي على الخصوص الكثير من التحولات الاستراتيجية الهامة التي سببت في تعميق جغرافية الانتكاسات والانهيارات المتتالية (فشل في تطبيق مقررات اتفاقية أو سلو –حرب الخليج الثانية وآثارها السلبية في تكريس الانشقاق والسقوط العربي- مسلسل التقتيل في الجزائر –حصار تلو آخر (العراف-ليبيا-السودان)- تصاعد موجات العنف في أكثر من قطر عربي... إلى غير ذلك من محطات التدمير والتي نعتقد أن حركية المسرح في الوطن العربي لابد وأن تكون قد رصدتها بكل تمظهراتها الخفية والعلنية...
ولكي يوسع من مجال متابعته فقد قارب الرحالة الناقد عبد الرحمان بن زيدان أكثر العروض المسرحية في مهرجانات عربية في بغداد والقاهرة وتونس والمنامة وفي أكثر من وطن عربي وفي أكثر من مناسبة وذلك حتى يتمكن من أجل يخرج القراءة والمقاربة النقدية من إطارها الضيق ومن اهتمامها المحدود بالمكتوب في الأوراق إلى العالم الفسيح الذي يصب عنايته على دينامية ومكونات العرض المسرحي.
من الأسئلة إذن يبدأ الناقد عبر مدخل جعل من فعل السؤال عتبة للقارءة والبحث والاستقصاء حتى يساهم بالمغاير كما قال في الحركة النقدية المسرحية العربية الجديدة وينخرط في تميزها القائم على الاجتهاد والحفر في الذاكرة الثقافية للتعرف على الممارسة المسرحية العربية العربية وعلى ما تحمله من سمات وإشكالات وقضايا متعددة باعتبار:
- أن المسرح العربي مسارح.
- أن الكتابة فيه وحوله كتابات
- أن أسلوب الإخراج أساليب
- أن لغة هذا المسرح لغات وعلامات ودلالات.
وبالتالي فالتجريب في هذا المسرح تجارب لا يمكن حصرها أو تحديد موضوعها في عمل نقدي واحد.
وقد قسم كتابه إلى ثلاث محاور أساسية وهي على التوالي:
1- مدخل ويمكن اعتباره ورقة مفردة وعتبة للكتاب تتغيا وضع القارئ العربي في بؤرة الأسئلة الإشكالية التي تهم الفعل المسرحي العربي بصفة عامة.
2- وعي الكينونة المحتمل في زمن المشروع المسرحي العربي والعلاقة بالإشكال العالمية في معالجة التراث المسرحي، وللإشارة فقد صدر هذا الفصل مفردا ضمن مقال نشر بالملحق الثقافي لجريدة العلم بتاريخ 28 يناير 1994.
3- خطاب التجريب في المسرح العربي ويعتبر هذا الفصل صلب هذا العمل النقدي إذ هو مقاربة تحليلية لمختلف الإشكال والأنماط المسرحية في أكثر من قطر عربي عبر قراءات استنطاقية لمحمولات النصوص بمكوناتها التقنية والتجريبية على مستوى الرموز والدلالات.
4- خطاب التجريب في النقد المسرحي وهنا نسائل الناقد عن دافع حصر الدراسات النقدية على المستوى المغربي ولم لم يواصل توسيع مشروعه إلى ملامسة الخطابات النقدية في الأقطار العربية الأخرى، فهل يتعلق الأمر أساسا بصعوبة معرفية لن تسعف أي دارس للإلمام بجل التراكم النقدي المسرحي في الوطن العربي.
5- وعي الكينونة المحتمل في زمن المشروع المسرحي.
كيف يواجه المسرحيون العرب قيم ودلالات الأشكال الغربية؟ هو السؤال المحوري الذي يوجه مسار البحث في خطاب التجريب ويتناول بالأساس قضية تقليدية.حضارية تأسست منذ انبثاق وعي فكري بالثقافة يتحدد قطباه في علاقة الآنا بالآخر، علاقة يحكمها في اتجاه واحد إشكالية المثاقفة أي المصالحة اليقظة الواعية بضرورة وحتمية استيعاب فكر الآخر دون تغافل أو إغفال حقيقة التميز الذي تلتحف به الهوية العربية، وهذا النزوع إلى التغريب قسم الرؤية المسرحية إلى دعوتين:
1- دعوة إلى نقل ثقافة ما وراء البحار نقلا سلبيا يؤول في النهاية إلى صهر خصوصية الكينونة وتذويبها الكلي في الكيان الثقافي للآخر.
2- دعوة إلى التقدم الثقافي العربي من منطلق التراث بكل مكوناته المكتوبة والمنطوقة. كما يمكن إدراج دعوة ثالثة أخف تطرفا وتروم إلى التوفيق بين التراث وأشكال الغرب المسرحية حتى ينتظم تاريخ المسرح بشكل سليم في ماضيه وحاضره وهنا يثير الناقد الأسئلة المركزية التالية:
- كيف نواجه أو نحاور هذا الأدب الكوني؟
- كيف يواجه المسرحيون العرب قيم ودلالات الأشكال الغربية؟
- هل يتم قبول هذا الأدب الغربي بطقسيته الجاهزة دون وعي تاريخاني؟
هذه الأسئلة تبدو بدون شك ملحة من أجل مساءلة الذات العربية أولا قبل التعامل مع المثاقفة وذلك لتحديد وعي الكينونة المسرحية الراهنية، فالعلاقة اللامتكافئة مع الغرب تدفعنا إلى حتمية معرفة كينونة الآخر ومساؤلتها بكل رصانة لتجنب طقسية الاقتباس والإتباع والتكرار وإعادة ما قيل وما أنتج وبالتالي التبعية العمياء التي تعني حسب الناقد الخروج عن إيقاع الزمن والتاريخ والاختلاف الحقيقي.
إن المسرح كفن حضاري وإنساني بامتياز ما زال لم يؤسس تاريخه وثقافته وسلوكه لإيجاد قنوات الاتصال بالمتلقي العربي بعيدا عن كل تقليد لا يريد الانخراط في الدورة التاريخية مما كان سببا في بروز حركة قوية تدعو إلى تحديث البنيات الاجتماعية العربية المختلفة وبالتالي تحديث الحركة المسرحية العربية وهو ما قدمته الكتابات التنظيرية لتوفيق الحكيم ويوسف ادريس وعلي الراعي وسعد الله ونوس والجماعات المسرحية في دياناتها التنظيرية لدى الفوانيس الأردنية وفرقة الحكواتي مع روجي عساف في لبنان وجماعة المسرح الاحتفالي في المغرب. والغاية التي توختها كل من هذه الدعوات التنظيرية في المسرح العربي هي البحث في ثقافته عن قالب مسرحي أو سامر شعبي أو حكواتي أو احتفال أو فرجة مرتجلة كي يتحقق اللقاء بالمتلقى العربي الجديد المبدع وليس المستهلك، والمعرفة الصحيحة بهذه الأشكال لا يمكن أن تتحقق في رأي الناقد إلا بالتجربة المتساوقة مع تسلسل نظري وعملي مرة واحدة. لكن يعود الناقد إلى طرح سؤال إشكالي في خضم الأسئلة التي يطفح بها عمله النقدي وهو فيما إذا كان سيبقى الفكر العربي ورجل المسرح تقليديا في رؤيته وتفكيره؟
فيجيب أن خلق مسرح عربي بخصوصياته القومية لا يمكن البتة تحقيقه إلا باعتبار البعد التاريخي لمختلف التجارب المسرحية (لأن التاريخ من حيث هو بنية ماضية حاضر يشكل الشرط الحالي للعرب تماما بمقدار ما يشكل شرط خصومهم، ذلك أنا لفكر اللاتاريخي لا يؤول إلا إلى نتيجة واحدة، عدم رؤية الواقع وإذا ترجمنا هذا بعبارات سياسية، لقلنا إنه يوطد في جميع المستويات التبعية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للفكر الانتقائي الذي ينفتح بأكمله على جميع المؤثرات الخارجية. لكن الفكر التقليدي ليس أقل تبعية[1] وعليه يرى الناقد يرى أن مسألة التكيف مع النموذج المسرحي الغربي لن تتم إلا عبر مستويين: نقد الذات ونقد الآخر وذلك بفهم جديد له بعيدا عن المحاولات التي قدمت رؤية للعالم كما لو لم يكن هناك زمن ولا تاريخ ولا محتوى إيديولوجي لهذه الأشكال لأن اعتبارها أفضل منتجات الآخرين لا تفضي بالمسرح العربي إلا إلى الباب المسدود.
أية خلفية معرفية تاريخية أو تذوقية جمالية تحكم تراتبية التجارب المسرحية في العالم العربي التي انتقاها الناقد بدءا من مصر ومرورا بالشام والمغرب العربي ثم الخليج؟ ولماذا إقصاء سوريا وتجارب رائدها دريد لحام والسودان بخصوصيته العربية الزنجية ولماذا الاكتفاء أيضا بعرض مسرحي فلسطيني واحد مع العلم أن القضية الفلسطينية تشكل في الغالب بؤرة الهم في الإبداع المسرحي العربي وأخيرا لماذا مصر في طليعة هذه التراتبية؟
لا شك أن للناقد قصدية تفصح عن رمزية النموذج المسرحي المصري لكون مصر كانت منذ مطلع القرن رائدة في البحث في تأسيس مقومات العرض على مستوى (الاقتباس والترجمة والتأليف وإبداعيا فيما بعد ثم على مستوى تكريس شروط الفرجة والاحتفال وصناعة المتفرج وترسيخ تقاليد وقيم المشاهدة والتلقي بالمعنى السوسيوثقافي وهذا يعني أن ظروف المثاقفة مع الغرب كانت كافية وحدها لقيام مثل هذا الوضع ذلك أن بلدانا عربية أخرى خاصة في الشام وشمال افريقيا كانت تعيش بدورها ظروفا تشابهها شكليا ولم تتوفر فيها مع ذلك مثل هذه البنيات ومن ثم تبرز رمزية مصر في خلق النموذج المسرحي[2] الذي تمكن بفضل خلق آلياته وبالتالي تراكمه على مستوى الإنتاج خصوصا التلفزي الذي استحوذ مع مرور السنين على الفضاء الإبداعي المسرحي في الوطن العربي الشيء الذي كان سببا في تلكؤ المخيلة أو تجميد نصوص جديرة بالمشاهدة والاكتفاء بالوافد المصري وهذا الوضع ساعد المسرح في مصر على التفكير في تجاوز النموذج نفسه محليا وعربيا عن طريق استيعاب الذاكرة المسرحية العالمية والانخراط فيها ولن نبالغ (إذا اعتبرنا خلق المؤسسة المسرحية الفنية في مصر- بالمعنى السيوسيولوجي الاعتباري- أهم عنصر تحكم في تأطير ما قد نسميه اصطلاحيا الوسط المسرحي بكل مكوناته ومستلزماته أي المادة المسرحية ككتابة وإبداع (نصوص – عروض صالات العرض، تقاليد المشاهدة والتلقي، الصحافة الفنية والمسرحية ضمنيا النقد المسرحي والنقد الفني للمسرح، التنظيم وهو أمر تظل فيه مصر ذات خصوصية تنفرد فيها بالريادة وظيفيا إلى جانب خصوصيات أخرى ترتبط بنماذج أخرى تحكمت من جهتها في حوار مصر مع باقي البلدان العربية ومن ضمنها المغرب الأقصى كالآداب والنقد والأغنية السينما[3] وفي هذا الإطار يتناول الناقد من خلال قراءة نقدية عالمة ومتفحصة ومتأنية كما أكد ذلك في مدخل الكتاب ثلاثة أعمال مسرحية يحكمها هاجس التجريب وارتياد عوالم المغايرة وهي على التوالي:
1- (العسل عسل والبصل بصل) يلتقي فيه كلا من بيرم التونسي ونتاجه الشعري وسمير عصفوري ورؤيته وتجربته الذاتية وقناعته في الإخراج وهو نوع من الكوميديا السوداء غايتها الحفر في المسكوت عنه في الواقع السياسي العربي.
2- (لعبة الزمن 2) لنعمان عاشور والناقد يتوخى من انتقائه هذا وضعنا في الصورة (الكاملة) للتجريب وتوظيف التراث فبواسطة شهريار وشهرزاد ينقل إلينا نعمان عاشور الصورة والأخبار والوقائع المرتبطة بموضوع البترول العربي والهيمنة الغربية...
3- (بقايا ذاكرة) لورشة الهناجر من إخراج البولوني جوزيف شيانا ومساعده هناء عبد الفتاح وهو عمل يتحرر من إغلال الإقليمية والانحباس القطري بغية راتياد كوكب الهموم الإنسانية عبر توظيف صور سوريالية بعبثية يصير فيها سيزيف الأسطوري كسند قوي لفعل التجريب قصد الإنزياح عن المرجعية الحقيقية التي انطلق منها وهي العالم الأرضي بصراعاته وتطاحناته.
بعد النموذج المصري ينقلنا الناقد عبر هذه الرحلة إلى العراق في ثلاث تجارب أهمها مسرحية "الحلم الضوئي" لصلاح القصب بتعاون مع شفيق المهدي ويمكن اعتبارها بحق تجاوزا وتخطيا بارزا لما قد راهنت عليه في معانقتها لرمزية التراث العربي والإنساني وبعده الوظيفي المحدود لكونها لم تتغبا مسرحة التراث وإنما لتحل السينوغرافيا محل المكتوب أي الصامت محل الناطق لتتفاعل الاكسسوارات باللون واللباس والحركة بهدف تركيب الصورة بشكل فيلمي يعطي للأحداث إيحاءاتها ورمزيتها كخطاب يريد تغير عادات المتلقي السمعية والبصرية في ثقافة المرئي إنه ما يسمى بـ 'مسرح الصورة'.
ومن المشرق العبي إلى مغربه بدءا من تونس وتجربة "المسرح المثلث" كنموذج للتجريب من خلال مسرحية "سنفونية" من تأليف وإخراج الحبيب شبيل حاول فيها الاستفادة من التقنية السينمائية لتركيب مفردات العرض المسرحي (ضوء- ظل- ألوان) في صميم المرجعيات التي طرقتها الأعمال المسرحية في الشرق (قضايا عربية ودولية –القهر- فشل الرغبات والأحلام وتأزيم البطل التراجيدي) غير أن تجربة المسرح الجزائري ومسرحية "العيطة" بالخصوص تعتبر تجربة منفلتة من هيمنة المؤسسة (المسرح الوطني الجزائري) بمعنى آخر هو انفلات من الرقابة الذاتية للدخول بجرأة إلى المواضيع الأكثر سخونة ومأساوية ينقلها إلى الركح بوعي الكاتب محمد قطاف و"العيطة" تندرج في ما أسماه الناقد بـ "مسرح الأطروحة" الذي يجعل من الخطاب السياسي الصريح والجريئ قاموسه ولغة حواره، تلك اللغة الملتصقة بالمعيش من أجل أن يضطلع الفن بأدواره اليومية لا أن يتحول إلى فن من أجل الفن وهذا ما يبين أن المسرح في الجزائر لا زال متشبتا بوظيفته الاجتماعية والسياسية وبذلك فهو يلغي الحدود بين ما هو درامي وبين ما هو سيساي. وفي هذا الفصل ونحن بصدد تعميق تصورنا المعرفي والفني مع الدكتور عبد الرحمان بن زيدان بخصوص المسرح المغاربي لابد من مساءلته عن عدم مقاربته لبعض النماذج المسرحية في ليبيا إذ تشكل إسهاماتها الثقافية مكونا أساسيا في ماضي وحاضر وكذا مستقبل الثقافة المغاربية مع العلم أيضا أن الناقد على اطلاع واسع بخصوصية هذه التجربة كما أن له مقالات نقدية عديدة بالمجلات الليبية في أواخر السبعينات فهل الأمر يرتبط أساسا بعامل المثافقة في بعدها التاريخي وتأثيرها على أدوات وخطابات الكتابة المسرحية في إطار من التلاقح الذي يفرض مقاربة نوعية تتأسس على أدوات إجرائية متجذرة في مختلف المعارف التي يطلقها الآخر وبالتالي ضرورة عزل وتصنيف هذه التجارب المسرحية المغاربية انطلاقا من مرجعيتها اللغوية.
إن من شأن المقاربة النقدية لكل مكونات الخريطة المغاربية أن يضع المهتم بالحقل المسرحي في الصورة الشمولية من أجل تكريس وعي بالثقافة المسرحية العربية في بعدها القومي.
ومرة أخرى وعبر أسئلة جوهرية يطرق الناقد ساحة الفعاليات المسرحية في الخليج من خلال نموذج الكتابة الجماعية في فرقة "مسرح الخليج في الكويت" التي تأسست سنة 1963 على يد عبد العزيز السريع وصقر الرشود وقد برر الناقد اختياره لمسرحية "شياطين الجمعة" بما يلي:
- في النص تفكير فني له قدرته القوية على الكتابة والتعبير بلغة المسرح.
- وجود علاقة إبداعية متبادلة بين المخرج والكاتب هي علاقة السؤال حول تأسيس الخطاب المسرحي داخل التجريب.
- توفر الفهم الموحد لإنجاز الكتابة الدرامية بمنهج إبداعي يوفر الانسجام الوحدة العضوية والموضوعية في النص المكتوب.
وتبقى الخاصية في نص "شياطين الجمعة" هي تقنية انخراط المتفرج في اللغبة المسرحية أي إسناد البعد الاجتماعي الحقيقي، المباشر والعضوي في خط السرد المسرحي لوضع الواقع على محك التجربة أيضا من أجل نسج خيوط الصراع وفق منظور الكاتب.
منذ التأسيس تم ربط المسرح المغربي بظواهر احتفالية شعبية (الحلقة –سلطان الطلبة- البساط) غير أن الرواد لم يتوفقوا في إيجاد الشكل الأصيل ذي الملامح الوطنية لأنهم وجدوا في البنية والبناء المسرحي الغربي حلا مقبولا مرحليا ومؤقتا لتغطي صعوبة الانطلاق والتأسيس، وقد تم قبول هذه البنية بمعطى جاهز وظف سياسيا بتأطير من فعاليات الحركة الوطنية وأعلام السلفية بمعنى آخر أن المسرح صار أذاتا وسلاحا ثقافيا هدفه الوحيد هو مقاومة الهيمنة والتسلط الاستعماري والدفاع عن المقدسات الوطنية (الوطن والعرض ضامن الوحدة) وقد تميزت هذه المرحلة بتقليد المسرحيات الغربية والشرقية أو على الأقل الاقتباس منهما وقد لعبت انتلجانسيا المدن العتيقة دورا طلائعيا في تثبيت دعائم هذا المسرح والترويج له. غير أن بروز بدائل مسرحية حديثة (احتفالية –هاوية- عمالية – طليعية- عبثية) كانت بمثابة مختبرات في إطار الوعي بالاختلاف الذي يثير الوحدة حملت همه فعاليات مؤطرة أكاديميا حاولت تكريس الانعتاق بعد الاستقلال على مستوى تجذير النص المكتوب والعرض انطلاقا من الاعتراف من الموروث الأدبي والشعبي وكذا الوثائق التاريخية، بيد أن بلورة هوية للمسرح المغربي سرعان ما تنازعها تياران ظلا يتقاسمان رقعة الركح منذ أواخر الستينات وهما المسرح الاحترافي ويجسده كل من الطيب العلج والطيب الصديقي ومسرح الهواة بفريق من الكتاب (محمد تيمد- عبد الكريم برشيد- محمد قاوتي –محمد بلهيسي –عبد المجيد فنيش –المسكيني الصغير –محمد الكغاط...إلخ) وقد كان هم هؤلاء جميعا هو إعادة النظر في التعامل مع التراث والتنظير للمسرح المغربي والعربي بإعادة تركيب أطرحات فكرية جديدة لا تهتم بإحداث قطيعة مع الغرب أو قطع التواصل الثقافي معه بل تدعو إلى إعادة قراءة الذات العربية ونقد العلاقة مع الغرب والإبتعاد عن كل استيلاب ثقافي.
ومن المظاهر وإنماط الفرجة التي برزت في سياق التجريب الماتح من ذخائر الثقافة الشعبية (الحلقة –الحكواتي) يسوق الناقد نموذج المسرح الفردي "المونودراما" بداية عند الراحل محمد تيمد في عمله المتميز "الزغننة" وعبد الحق الزروالي الذي تقمص جبة الوحدانية بكل إصرار منذ عمله السبعيني "الوجه والمرآة" و"عود الريح" إلى آخر أعماله "شكون ثقب الخنشة".
وكما بدأ الدكتور عبد الرحمان بن زيدان رحلته النقدية بالسؤال يختم به أيضا متسائلا عن آفاق المسرح المغربي وإلى أي حد يمكن إيجاد قنوات الاتصال حقيقية تضمن التواصل بالتجارب المسرحية والعالمية ثم عن ازدهار الإنتاجية أو تدهورها هل يرجع إلى الذات أم إلى الظروف المحكومة بتحولات العالم بعد التسعينات. أسئلة تبقى إذن إجاباتها رهينة بالتحديث في المنظومة الثقافية ككل عبر استراتيجية تشارك فيها كل الأطراف العملية (جماعات محلية –مؤسسات –مالية – استثمارات الخواص...).
وأخيرا وبدون أن نقارب من جهتنا خطاب التجريب في النقد المسرحي المغربي الذي تناوله الناقد كآخر فصل في كتابه بكل أسئلته الإشكالية أيضا بين المختلف والمؤتلف فيه وبين الحضور والغياب وبين المتداول والمتغاير فإننا نؤكد في هذا القراءة بأن الكتاب يعتبر استمرارا للنهج التنظيري والتأصيلي والدارس قد عرفته منذ أواخر السبعينات مهووسا وشغوفا بالفعل المسرحي نقدا ومتابعة وحضورا ولعل لمعاكفته أيا مئذ لزميله محمد تيمد والدكتور حسن لمنيعي لخير دليل على انتمائه الطبيعي لصفوة أهل الركح.
[1]- خطاب التجريب في المسرح العربي الدكتور عبد الرحمان عبد زيدان. مطبعة سندي مكناس الطبعة الأولى 1997.
[2]- أزمة المثقفين تقليدية أم تاريخيانية، ترجمة دوقان قرطوط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 1978.
[3]- إبدالات المسرح العربي المعاصر، بشير قمري الملحق الثقافي لجريدة العلم 23/10/1993.