تشكل المكان: مقاربة أولى
يقوم كل عمل روائي على عنصرين أساسيين (يستحيل) بناؤه من دوهما، هما عنصرا المكان والزمان، فلا يمكن إطلاقا تصور نص سردي قصة كان أن رواية منفلتا من غيقاع زمني يمضي به كما لا يمكن تصور نفس النص خارجا عن فضاء يؤطره وينهض على مساحاته فالنقاد والباحثون والمنظرون في مجال الأدب قد أفاضوا في إبراز أهمية الفضاء في التخييل الروائي والأنساق الطوبولوجية الأخرى التي تتخلل العمل بكامله أو لإبراز الروابط بينه وبين المكونات الحكائية. وقد أولت نظرية الأدب اهتماما كبيرا لقضية الفضاء المكاني نظرا لما ينهض به من دور نصي داخل السرد[1] سواء أكان ذلك الفضاء المكاني واقعيا أم مجرد رؤية.
والفضاء بصفة عامة لا يقتصر على كونه إبعادا هندسية وأحجاما لكنه فضلا عن ذلك نظام من العلاقات المجردة يستخرج من الأشياء المادية الملموسة بقدر ما يستمد من التجريد الذهني أو الجهد الذهني المجرد.[2]
نستطيع من خلال هذا التصور الأولى الإقرار بأن المكان الروائي يتأثت بواسطة لغته. تلك اللغة التي تحوله بواسطة عملية انتظام دلالاتها إلى صور وبالتالي إلى حالة ذهنية لدى طرفي العملية الإبداعية (الكاتب والمتلقى).
إذا كان المكان كما أشرنا مكون أساسي في البناء السردي فهل تشكيله داخل هذا البناء يتم وفق تصور أولي شامل وعام أم أن سيرورة الأحداث هي التي تتحكم فيه وتطالب بإحضاره في حينه؟
للإجابة على هذا التسائل يلزمنا وقبل غصدار أي حكم التأكيد على أن دلالة المكان في معمار القصيدة مثلا يختلف إلى حد ما عنه في معمار الرواية لسببين:
1- المكان الشعري زئبقي ومطلق ولا تتحدد معالمه بصفة حاسمة داخل التشكيل الفضائي عموما لأن المكان في المتن الشعري فضفاض وأحيانا يسقط من سقف الذاكرة من تلقاء نفسه نتيجة حالة شرود يعيشها الشاعر وهو يبني عالم قصيدته.
أما المكان الروائي فهو يرتبط بالصورة والعمق الدلالي.
2- إن القوانين التي تخضع لها العملية الإبداعية الشعرية تحكمها شبكة من الشجونات النفسية والتداعيات المتدفقة، وهي غير خاضعة لضابط ما، مثلما يضبط منطلق السرد وحركية الأحداث وعليتها عوامل الزمان والمكان والشخصيات والحبكة بمعنى أوضح يكون المكان في العمل الروائي منظما بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر الأخرى لذلك فهو يؤثر فيها ويقوى من نفوذها كما يعبر عن مقاصد المؤلف.[3]
إطـــار عام
يبدو عنصر المكان أهم مكون تثبته الرواية (الحي الخلفي) والكاتب يؤمي من خلال العنوان بإشارة قبلية وعلنية على أهمية الفضاء الذي تتفاعل فيه العوالم وشحنه بشبكة غنية من الدلالات. إنه الحي الخلفي نقيض الحي الأمامي الراقي.. إنه الخلفية الحقيقية أزيف التمظهرات الأمامية.. هو فضاء للمفارقات والتناقضات، يؤكد سلطة الواقع وخيبة الحلم، وهو بشكل عام "مكان منته، مقفول وغير مستمر ولا متجانس، يعيش على محدوديته كما أنه فضاء مليء بالحواجز والثغرات وغاص بالأصوات والألوان والروائح باختصار أنه ليس فيه أي شيء "إقليدي"."[4]
فـ"الأمور كلها تسير على ما يرام في هذا الحي لكن الأمور تسير على ما يرام مثلما تسير مياه بركة آسنة" ص89.
يولد فينا هذا المقطع انطباعا أوليا كما لو أننا بصدد قراءة السطور الأولى للرواية، إلا أن عكس هذا هو ما يحصل فالكتاب واعتمادا على مناورة سردية تراجعية على مستوى النسق الزماني أثر إدراج تلك السطور في نهاية الرواية مما يوهم للمتلقي كما لو أن حركية السرد ستنطلق من جيد ضمن مسار لولبي لا متناهي يجعلنا داخل فضاء مقفول على نفسه وتحكمه العديد من العلاقات الإنسانية الضيقة حيث الحياة تبدأ بالالتفاف حول نفسها فكلما انتهينا من قراءة الرواية إلا ونشعر بانفتاح عالمها علينا من جديد.
يتوزع النسق المكاني في الرواية بين عنصرين:
1- الحفرة كدلالة مهيمنة على سطح المتن الروائي ككل.
2- أمكنة أليفة/أمكنة معادية
حين يتم استحضار (الحفرة) كمكون فضاء ضمن مسار السرد فإنها كمكان متميز تحضر بكل أبعادها الفيزيقية والمجردة معا وفي أن واحد، أي أنها تحضر بعناصرها الحسية والذهنية. فهي ترتبط في مخيلتنا وذاكرتنا الجماعية بمجموعة من الدلالات الرهيبة (القبر –المقوع –الإنحدار –الغدر – التكتم- التعفن...إلخ) ولقد ترددت في أعمال أخرى عند زفزاف محمد نسوق هنا على سبيل المثال ما جاء في قصة العربة "فالبشر يقتات من تلك الحفر دون أن يعبأ بالذباب والذباب لم يكن يؤذينا على الإطلاق فقد كان يقتات مثلنا من تلك الحفر) ص31.
في رواية (الحي الخلفي) تصير (الحفرة) ظاهرة مكانية مهيمنه فهي وعاء لاحتواء التناقضات والإحباطات وإذا كان بروزها في هذا العمل ظاهرة تثير الانتباه فإنها تستدعي منا وقفة من أجل إبراز مختلف روموزها على مستوى الحقل الدلالي عامة:
لو قمنا بعملية مسح لوجدنا أن لفظة (حفرة) تتكرر إثنا عشر مرة، واتنظامها داخل بنية التشكل الفضائي يطبعها بسمتين أساسيتين ودلالتين متميزتين تغلب أحدهما على الأخرى.
I- الدلالة الرمزية المهيمنة:
وهي تطغى وتتكرر سبع مرات يتحول فيها الحي الخلفي إلى حفرة كبيرة، أي إلى مجال تعسفي واسع لما يعم فيه من القبح والخوف والأزبال وتتحول أزقته ومسالكه إلى فضاء للجنس والقمار ومعاقرة أبخس أنواع الخمور. تصير الحفرة ذلك الواقع المغلق على البؤس والفقر وفي بعض الأحيان الموت بالمعنى المجازي.
يقول السارد في ص21 "أحيانا عندما يخسر أحدهم يكسر أحد الأعواد ثم ينزل إلى الحفرة كأنما يدفن نفسه" وفي ص27 "وقف منتفضا مثل تيس جريح وألقى بنفسه في الحفرة لأنه خسر كل فلوسه" من خلال هذين المقطعين تصير الحفرة قبرا يدفن فيه الإنسان نفسه لأنه خسر كل شيء حينما خسر فلوسه.
وفي مستوى ثاني تتحول إلى مكان للعطالة والفوز ونقتصر هنا على سياق مقطعين وردا معا بالصفحة 56 "ولا شك أنه ذات يوم سوف يغادر الحي ويشتري دارا أو متجرا في أحد الأحياء الراقية ويتركنا نحن دائما في الحفرة" ثم "آه لو وجدت رأس المال لما عدت إلى تلك الحفرة أبدا".
وأخيرا وفي مستوى ثالث تتحول هذه (الحفرة) إلى يؤرة ومخبأ لإخفاء الفضائح والتستر على الممارسات اللاأخلاقية "الدين يعتقدون أنهم يخفونها (بالزبايل) في حفر لا تراها الأعين ولا تدركها الأبصار" ص69.
انطلاقا من هذا التحليل الوجيز على مستوى الدلالة الرمزية يتجلى لنا ثالوث الثنائيات التوافقية التالية: الحفر / الموت الحفرة / الفقر الحفرة / التستر
يتضح من خلال هذه الترسمة أن هذه الثنائيات لا تلغي بعضها البعض وإنما تتكامل فيما بينها لتشكل الأبعاد الواقعية الثلاث التي ينهض عليها عالم (الحي الخلفي).
II- دلالة أصلية أو الحفرة / الأيقونة:
في هذا المستوى تبدو (الحفرة) كما تراها العين المجردة وهي تعبير صريح وتقريري عن واقع البنية التحتية حيث عشوائية البناء وغياب التجهيزات الأساسية فكثيرا ما تكون هذه الأحياء ومثيلاتها معرضة للحفر المستمر فتتكوم الأتربة والطمي. ولتبيان هذا نسوق المقاطع الثلاث الآتية: "نبتت فيها أعشاب قصيرة أو تكومت فيها أتربة من مخلفات الحفر" ص7 وفي الصفحة 11 "كانت أزقة مليئة بالحفر وغير مبلطة" وأخيرا في ص13 "ابتعدت المجموعة وهي تتلافى الحفر وبعض الأحجار وأكوام الطوب".
في جانب آخر يتأثث الفضاء الروائي في (الحي الخلفي) من ثنائية أخرى يشكل قطبيها ركيزتي النسق المكاني عموما. إنها ثنائية الأمكنة الأليفة / الأمنكة المعادية وهما تتدرجان في وحدة المغلق/ الضيق، وقد تم التركيز على مكوناتها بصفة خاصة لكون حضور الشخصيات يتوزع بينها اختيارا تارة وإجباريا تارة أخرى إلا أن (الحي الخلفي) تقدم لنا معطى جديدا يتمثل في توحد عنصري الثنائية في حدود فضاء واحد، وهذا يحيلنا إلى القول أن هناك تفاعل بين المكان والحالة النفسية للشخصيات الروائية، فحسب بلزاك فإن تخيل مخلوق بشرى في أي عمل روائي يعني بالدرجة الأولى تخيل المقاطعة أو المدينة أو ركن المدينة أو البناية أو الغرفة التي يعيش فيها. ذلك أنه (بلزاك) لا يقنع أن يكون مغزى وجود الكائن مفهوما بأية حال دونما معرفة دقيقة بالأشياء التي تحيط بها وعند زفزاف نجد هذا الرتجاه يطفو بوضوح على سطح الكتابة سواء تعلق الأمر بجنس القصة أو جنس الرواية. فهو يركز على الفرد وعلاقته بالمكان وقد عودنا دائما على اقتحام عالم الناس البسطاء وفضاءاته المتباينة.
إزاء هذه الأمكنة التي عملنا على إبرازها في رواية (الحي الخلفي) يبقى الكاتب الروائي والقاص محمد زفزاف ذلك المبدع العنيد الذي يمتلك قدرة متميزة على اختراق الفضاءات عموديا وأفقيا فهو ذو رؤية منفتحة داخل الذات الساردة وخارجها، وقد كان لسفره الدائم في جغرافية الوطن عامل هام على بلورة تفاصيل الأمكنة والفضاءات (مدنا وقرى وأحياءا...إلخ) التي تتفاعل فيها الأحداث والشخوص والزمن، ففي الدار البيضاء كانت (الأفعى والبحر) و(بيضة الديك) و(الحي الخلفي) وفي القنيطرة بنى (بيوت واطئة) وفي الصويرة (الثعلب الذي يظهر ويختفي) وفي إسبانيا ولدت (المرأة والوردة) والبقية تأتي.
[1]- الحي الخلفي رواية لمحمد زفزاف منشورات عالم الصحافة ط1 1992.
[2]- اعتدال عثمان إضاءة النص.
[3]- بورنوف ووولي: عالم الرواية، بوف باريس 1973.
[4]- جان فيسجربر: الفضاء الروائي.
|