بودلير في باريس .. باريس في بودلير
ا
حتفى الأدب الفرنسي والعالمي في 5 يوليو الماضي بذكرى مرور قرن ونصف على ولادة ( أزهارالألم)
الإضمامة الشعرية التي حققت استمراريتها في الزمن الشعري والأدبي( Les fleurs de mal
ما لم تحققه أعمال شعرية رائعة لشعراء متألقين آخرين مثل ( جاك بريفير ) في ( كلمات ) أو ( أراغون) في (عيون إليزا ) أو ( فيرلين ) في ( أشعار حزينة ) .
لقد تركت أشعار ( بودلير ) أثرها الرمزي لدى كل شرائح القراء ، لإنها قصائد متجددة باستمرار ، غير أن الكثير من القراء الفرنكفونيين خارج فرنسا ممن يجهلون جمالية الفضاء والمكان الذي انبثقت فيه (أزهارالألم ) فباريس عاصمة الأنوار والعطر والفن والأدب كانت الرحم الروحي والرمزي الذي تشكلت فيه هذه الباقة الخالدة … في هذه الترجمة لن نعود لنحضن هذه الباقة الباريسية مرة أخرى بل سنتجول مع (بودلير) في شوارع وحارات وحانات وبيوت باريس أواخر القرن التاسع عشرعلنا نؤثث تلك الخلفية المكانية التي نهض عليها معمار القصيدة البودليرية.
بودليرفي باريس .. باريس في بودلير
يعتبر(بودلير) أول الكتاب العالميين الذين أسسوا وعيا وجدانيا وشاعريا بالمدينة المعاصرة ، الحديثة ، وعيا بالعاصمة باريس على الخصوص التي وصفها ب( الجحيم المشتهى) . يقول في مقطع إحدى قصائده التي سنعود إليها في ختام هذه الترجمة :
أحبك/ يا جميلتي / يا فاتنتي …
أحب قذائفك / طعناتك / انتصاراتك / أعيادك
ضواحيك الحزينة/
فنادقك الباذخة/
حدائقك الحبلى بأنفاس جذابة /
أديرتك التي تعزف ترانيم الصلوات /
خسارات الطفولة/
شيخوختك المخبولة/
لقد اقتصر افتتان الشعراء بالعاصمة باريس في حدود الوصف المجاني ، البراني ، إلى أن جاء بودلير الذي دشن وعيا جماليا ووجدانيا بها . فقد أصدرقبله لويس سيباستيان عشية الثورة الفرنسية لوحات باريس Tableaux de Paris وأصدر قبله أيضا (ريتف دو لابريون) ليالي باريس (Nuits de Paris متوخيا رسم لوحة معبرة عما يحدث في باريس ليلا … غير أن (بودلير) إلى جانب (نرفال) كانا من أوائل الشعراء الرواد الذين شكلوا وعيا سيكولوجيا جديدا بالعاصمة الفرنسية .
ولد بودلير في شارع أوتفوي Hautfeuille وتحديدا عند زاوية محج سان جيرمان القريب من شارع سان ميشيل ، ولازالت هناك إلى اليوم يافطة تشير إلى بيته المنقرض . وقد توفي في الدائرة السادس عشرة بين إتوال و تروكاديرو في زقاق Dome بمأوى الصحة التي كان يشرف على رعايتها الدكتور
دوفال .
اهتم العديد من الناشرين بقائمة الفضاءات والأمكنة التي سردها بودلير في مراسلاته وأعماله الشعرية ، فإلى جانب الأزقة والساحات والمدارات ، بدا عشقه وافتتانه أكثر بالمقاهي ودورالعرض المسرحية ، لقد تملكها بقوة وتبدى هذا من خلال معرفته الحميمة والعميقة بها ، بل بلغت فتنته بها إلى حدود الغيرة La jalousie : غيرة العاشق على عشيقته .
في رد له على رسالة والدته في فبراير من سنة 1865 التي أعلنت فيها عن نيتها القدوم إلى باريس والإستقرار بها ، يجيبها بودلير:
( في هذا البيت الباريسي .. تحت هذا الشلال .. فوق هذا البلل الطيني .. هذا الثلج .. لاتبدو باريس أكثر جمالا كما تتخيلين إلا تحت أشعة الشمس وبين حدائقها الرائعة ) فهل كان بودلير يود إبعاد والدته عن باريس لوقايتها من نزلات البرد والزكام ؟ ثم لماذا أفصح عن موقفه هذا إذا كانت باريس لاتكتمل فتنتها في رأيه إلا في فصل الشتاء الجذاب … قد لا نعرف الإجابة إطلاقا ؟ ثم ألم يبح بودليرفي كثير من الأحايين بدرجة عشقه لفصولها النعسانة .. أواخر الخريف و في أوج الربيع ، حيث أجمل الأحلام ليلة حالكة .. وآلام تندفن في سرير لذة عابرة ..؟
لم يهتم بودلير بأصباح الربيع بل كان يفتتن بسماء باريس الرمادية وضبابها … بأشعة الشمس
العسجدية المتوارية خلف ستار الفصل الربيعي …
لقد خبر طقوسها وتفاصيلها اليومية . تساءل جون سطاروبانسكي في مقال بعنوان : حكمة بودلير( أي
فرق بين ليلة محروسة لشاعر قديس وليلة مجازفة في مدينة عظيمة كباريس لشاعر متسكع …)
إن من يعيش العزلة والوحدة في ردهات الدير يكون دائما في حاجة إلى ضوابط زمنية تمكنه من تجنب
انحرافات التشرد ، حيث يكون الإلتزام بمواعيد الشعائر الدينية أساسيا والترويح المضبوط عن النفس
مقياسا للزمن والجسد.
ليس الصباح دائما جميلا ومجيدا / والفجر ليس دائما لحظة انتصار على جحافل الليل / إنه زمن لإعلان آلام النهار الفائت بالرغم من أغاني الديك التي تمزق الستار الضبابي / إنه زمن موت المرضى في المصحات / وزمن آلام النساء العاملات / زمن عودة العمال منهوكين إلى بيوتهم / زمن الشروع في التعب / قبل سنوات كانت شوارع باريس قبل طلوع الفجر تبدوغاصة بالعمال الذين يغالبون الوسن وهم على دراجاتهم الهوائية / سعاة البريد / الكناسات اللآئي تبللن الشوارع بخراطيم المياه .
قبل بودلير بعشرات السنين كان (ديزوجيي) قد وصف يقظة باريس على الساعة الخامسة صباحا في الصورة الآتية :
( المصباح الذابل / العازف الجائع/المنجم المعتم / الجيب الفارغ / الرجوع الملتهب / باريس تستفيق فلنذهب إلى الرقاد .) إنه زمن الصقيع والبرد الذي سيمزق فيما بعد وجدان (شارل كروس) سنوات بعد ذلك.
لربما كان للغروب فتنة أكثر .. فالغروب وقت للعوم في بحر الحشود البشرية مثلما تسبح سمكة في قعر الماء .. تكون باريس على وشك الإقفال .. بيوت تنغلق .. عائلات متحلقة حول اللمبات المبثوثة على الموائد .. يقول لوتريامون : عالم ينفتح / عالم الأنواروالرغبة .. والحياة المصطخبة .
كان بودلير يجوب باريس بحثا عن المال .. لقد عاش في جل أحيائها : فويو ـ سان جيرمان ـ جزيرة سان لوي ـ فندق دييب ـ شارع أمستردام ـ قرب سكة القطار بمحطة سان لاراز التي تؤدي إلى (هونفلور) حيث تقيم والدته .
لقد تشرب من جهة أخرى كل وجوه وتجليات العاصمة : يقول ( في تجاعيد العواصم العتيقة / حيث كل شيء ، حتى الرعب ممهورا بتعازيم السحر ) لكنه يعود في شطر آخر ليقول : سأعود إلى الجحيم / باريس القذرة / باريس الضجر كما لم أضجر من قبل …
أخالها عبرمساءات الصيف حين تضيء الشمس أمداء الشوارع ، حيث النهار يبحث عن الخلود ، حيث النهار يأتي بالضجر .
في الحدائق ، تحت أكشاك الموسيقى تسكب الفرقة الموسيقية الهمم والشجاعة في نفوس السابلة …
وفي مماشي الحدائق كان بودلير يلتقي الفقراء والمعوزين والوحداء les solitaires المعزولين وقد
وصف كل هذا في قصيدته النثرية التي وسمها ب ( ملل باريس ) Spleen de Paris ، غير أن بودليرليس له هذه النظرة المؤلمة أو هذه النظرة للآلام الإنسانية ، الخرساء ، فحسب ، بل له في جانب آخر مقاربة ساحرة لمدينته .
في 16 فبراير 1860 كتب رسالة إلى ( بولي مالاسيس) يقول فيها : (هذه فرصة سانحة لكتابة قصائد
مشتركة ، قصائد حالمة من عشرة أسطر ، أو عشرين أو ثلاثين ، أنقشها على أجمل اللوحات …أحلام فلسفية لمتسكع مثلي في باريس .
وقد بدا أن بودلير وميريون لم يتواءما لإنجاز هذا المشروع الإبداعي الشعري المشترك .
هناك طريقتان لفهم باريس . الأولى هي التيه في شوارعها ، ساحاتها ، قصورها وحاناتها ، رخائها وفقرها ، والطريقة الثانية أن نشاهدها من موقع شامل وبانورامي ، إن أطول نص شعري لبودلير هو
مشروع خاتمة الطبعة الثانية لأضمامة ( أزهار الألم ) Les fleurs de mal عنوانها ( غنائية لباريس
من قمة مومارتر ) Ode à Paris vu du haut de Montmartre هذه القصيدة غير التامة يمكن اعتبارها من القصائد الجريئة التي تختزل العشق المتبادل بين الشاعر والمدينة ، بين المدينة والشاعر أو بعبارة أخرى بين المدينة وشاعرها … إنها قصيدة العشق الأقصى ، العشق حد الجنون ، يقول بودلير
( أحبك / ياجميلتي / يافاتنتي /
قذائفك / طعناتك / انتصاراتك / أعيادك /
ضواحيك الحزينة /
فنادقك الباذخة /
حدائقك الحبلى بأنفاس أخاذة /
أديرتك التي تنفخ ترانيم الصلاة
خسارات الطفولة/
شيخوختك المخبولة /
كتبها برنار دولفاي تحت عنوان : بودلير وفتنة باريس
|