القصة القصيرة... من الرمز إلى الرمزية
لاشك أن القصة القصيرة فرضت جنسها في فضاء السرود، مستقلة إلى حد ما بمكوناتها الجمالية والبنائية، محايثة للانعطاف الفكري في مسار الإبداع العربي، إذ كانت الذات العربية جاهدة في ترميم هويتها. وقد استطاعت القصة القصيرة رصد ذلك التحول التاريخي النهضوي بالتقاطها لتمظهراته، مستعيرة إمكاناتها السردية من التراث العربي (ألف ليلة وليلة، المقامات، حكاية الشطار والعيارين...إلخ) والتراث العالمي (شعر، أسطورة) مما أتاح لها أن تنفتح على آفاق سردية متنوعة وتتطور لتحدد بعد ذلك خصوصيتها وتميزها على مستوى التيمات والأساليب وتتوقف في تفجير محمولات اللحظة، فتعددت التقنيات القصصية: (انسقة زمنية هابطة وأخرى صاعدة أو متقطعة، وصف بمضي بزمن السرد ولا يوقفه، حوارات، مونولوجات، حفر في ثنايا الذاكرة... إلخ وبذلك حققت بعض الأعمال القصصية فرادتها بل تجاوزت عقدة الاقتباس من النماذج الغربية (تشيخوف، غوغول، موباسان، بو...) محطمة ضوابط الحكي التقليدية وتأسيسا على هذا كان البحث عن صيغ وبنيات وصور جديدة من الاهتمامات المستبدة بدينامية التجريب من أجل اكتشاف فضاءات حكائية مغايرة محايثة لقلق الذات العربية، لذلك لم يكن وعي الكاتب بقيمة التجريب الجمالية والفنية منحبسا في انبهاره بطفرات النص الآخر واقتفاء معابره بل تمكن من صوغ أسئلته الخاصة. إن هوس المغايرة هذا هو ما أمن بل فرض على القاص العربي أن يتفاعل بإيجاب مع الروائع القصصية، فلم يأت النص استنساخا مبتذلا لنصوص سابقة بل تمكن من أن يتميز بخصوصيته المتفردة.
ولكون القصة القصيرة فضاءا حكائيا محدودا بنائيا وجماليا على مستوى اقتصادها اللغوي وزمنها السردي كما يدل على ذلك جنسها (قصيرة) وحيث أنها عاجزة إلى حد ما عن استيعاب أشمل وأرحب لحركية التطور المجتمعي المتواثر في كل مظاهره كما هو الشأن بالنسبة للرواية فقد اهتمت منذ نضجها إلى رصد هذه المظاهر والسلوكات الفردية والجماعية، في إطار (لحظاتي) ضيق فكانت، ولا تزال إلى اليوم أقرب الأجناس السردية إلى المتلقي مما مكنها من استثمار رقع البياض التي تفورها صفحات الجرائد والدوريات. هذا التواصل الذي أصبح منتظما زمنيا بين القاص والقارئ، بين القصة والمتلقي أسهم بشكل وافر في خلق نوع من العلاقة التذوقية عبر التأثير الجمالي ومصادره المتعددة، كإقحام المتلقي في عملية بناء النص وفي ميكانيزمات التذكر إلى غيرها من المصادر التي قد تتنوع وتتعدد حسب شروط ومواصفات كل قراءة ممتعة.
والرمز كمكون جمالي وقيمي منح القصة القصيرة عمقا مجازيا أبرز تمردها على أساليب الواقعية، وقد انعكس ذلك على بنية النص القصصي الذي تجاوز الجزئي الضيق إلى المطلق الشامل لتجنب الوقوع في مأزق التعبير المبائر وهكذا امتلكت صياغة جديدة وتيمات متميزة، احتل فيها الرمز مكانة أساسية متصلة بإثبات فلسفة الذات من خلال محاورتها لظلال الواقع لا بفيزيقية الواقع، ذات تبحث عن موقعها في اللاممكن من الممكن بالخطاب الرمزي للانفلات من شرك إرغامات النزعة الواقعية، وهكذا برز تيار جديد في جنس القصة صمي ب (القصة الرمزية) كأسلوب للتعبير وقد نجح هذا التيار في خلخلة نظم المخيال وعلاقته متميزا بالتطلع إلى قضايا فلسفية سياسية ميتافيزقية، كالموت والقدر والحقيقة وغيرها. تقول فريزير "ليس الرمز شيئا أو إشارة تتحدد ولكنه وسيلة فنية بها يسعنا أن نوحي أو نعبر عن أية حالة من الحالات النفسية، وكل ما في الكون ينزع إلى أن يكون رمزيا" تلك مقدمة لابد منها وقبل أن نتلمس تجليات النزعة الرمزية في بعض نماذج القصة القصيرة نرى أنه من الضروري تحديد مفهوم "الرمزية".
الرمز مفهوم استتيقي وهو (وسيط تجريدي) بين عالم الواقع وعالم الأخيلة وكل إبداع فني هو رمز لانتقاء الكاتب لجوهر الأشياء كما تمثلت في ذهنه[1] ويرى أرسطو أن (الكلمات المنطوقة رموز لحالات النفس والكلمات المكتوبة رموز لكلمات منطوقة[2]. أما بالنسبة لفرويد فإن قيمة الرمز بمدى دلالته على الرغبات المكبوتة في اللاشعور، نتيجة الرقابة الاجتماعية والأخلاقي وقد أدى توظيف الرمز كاوالية في مختلف وجهات النظر عبر –نصية إلى ظهور أنماط متعددة لاتجاهات الرمز (ميتافيزيقية، نفسية، أسطورية) ولكون الشعر جنسا أدبيا ينساب في نهر من الرموز فقد كان حريا أن تنبثق الإرهاصات الأولى للنزعة الرمزية في حقل القصيدة، وقد وجدت الرمزية بطاقاتها الإيحائية الواسعة في الشعر مجالا رحبا مع الشعراء الرواد الذين ارتكزوا في إبداعاتهم على عنصرين هما: الموسيقى والإيحاء (الرمز) وصاروا يرون أن القصيدة تتولد عبر نبرات جوانية، مما حثهم على نسف علاقة السياق اللغوي وسلب علاقته التركيبية تحقيقا للرمز الذي يتماهى مع الإيحاءات الصوفية وهم في هذا يستعينون بما يسمى ب "المواءمة" حيث إن اللفظية تستمد قيمتها من درجة مواءمتها لباقي الألفاظ وانسجامها صوتيا. ومن البديهي أن تهب نسمة النزعة الرمزية على القصة لالتقائها في كثير من الخصوصيات بالقصيدة (صور –إيقاعات –تشكيل...إلخ) هذا التقاطع الجمالي في هذه الجذور المشتركة أدت إلى سهولة استيعاب القصة القصيرة لأساليب الرمز مقارنة مع باقي الأجناس السردية الأخرى، كما أنه بإمكانات القصيدة اكتسبت القصة بعد المجاز، واهتمت بإيحاءات اللفظة، وهي بتناولها الأحداث من رؤية خاصة تسعى إلى تفجير أقصى طاقاتها فأدى ذلك إلى اعتماد الموضوعة الرمزية التي لم يسمها كولريدج "إلا ترجمة للأفكار المجردة إلى لغة تصويرية ليست هي بدورها إلا تجريد الأشياء من الحواس" وليست الصعوبة في تصوره في تحديد معناها فقد حدد صيغته في إحدى محاضراته سنة 1818 حيث قال: "وهكذا يمكن أن نحدد التأليف القصصي الرمزي باطمئنان بأنه استخدام مجموعة أدوات وصور في أفعال ومكملات مطابقة بحيث تنقل، في الخفاء، إما صفات أخلاقية وإما تصورات عقلية ليست هي نفسها موضوعات للإدراك الحسي، وإما صورا أخرى، وأدوات وأفعالا، وأقدارا وأحداثا، بحيث إن الاختلاف يعرض في كل مكان للعين أو الخيال بينما التشابه يوحي به إلى الحقل، ويتم هذا على نحو مترابط حيث تتألف الأجزاء لتشكل كلا متماسكا.[4]
لقد انبثق المحاولات الأولى للقصة الرمزية مستشرفة رؤية جديدة لواقع عربي مثخن بالهزائم ونكتفي هنا فقط بالإشارة إلى بعض الأعمال لنجيب محفوظ كقصة "همس الجنون" ويوسف ادريس في "الخدعة" ويحي الطاهر عبد الله في "قفص لكل الطيور" وجمال الغيطاني في "الغرق في البر". كما عرفت القصة القصيرة الرمزية عند الكتاب الفلسطينيين طفرة متميزة قصد التخلص من التسطيح وقد هيمنت على جل النصوص مسحة من الشاعرية القادرة على الرمز المتجدد ليقوم كطرف في معادلة حديها الرمز ودلالته من غير أن يرتبط هذا بذلك بخيوط العلاقة المعمارية التركيبية في البناء القصصي. وانطلاقا من جرد عام لقائمة من المجاميع القصصية الفلسطينية لكتاب أمثال توفيق فياض، رشاد أبو شاور، أميل حبيبي، ابراهيم العبسي، محمد طه يمكننا أن نستنتج المعادلات الرمزية التالية:
الزيتون = السلام، المرأة = الأرض والانتماء، السحب = المأساة... إلخ عكس هذا بقيت الإبداعات القصصية في المغرب وفية لتيار الواقعية النقدية الاجتماعية ثم الواقعية الجديدة في أوضح تجلياتها كما بقي التجريب على مستوى التيمة الرمزية محدودا في فلتات نادرة. فعن جيل الستينات استطاع القاص إبراهيم بوعلو أن يرتاد أفق هذه المغامرة بدل "الانعكاس" كإطار حكائي إيحائي في مجموعة "السقف" يتغيا إغناء التجربة وإنقاذها من الصياغة النمطية السائدة خصوصا في قصة "الرجل.. والصخرة. والزاوية المهملة" حيث تتقمص الصخرة شخصية حية تمثل اللامبالاة والتصلب في أن واحد ويحاول السارد الاقتراب منها "الصخرة التي كانت أمامه دفعته إلى أن يصمت... أن ينظر إليها مدة طويلة تعمل في نفسه انفعلات شتى من غير أن يفتح فاه" وفي قصة "ساعة الرفض" يرمز من خلال حوار بين شخصين إلى طبقتين اجتماعيتين تحسدان طرفين أساسيين في ركح الصراع الطبقي ونحس أنه في الوقت الذي يروم فيه بوعلو الابتعاد عن شخصياته وإطلاقها من قبضته كي تمتلك نفسها الخاص وتوحي بدلالات الرمز في هذا الوقت يؤكد ويلح على التمسك بها.[5]
وفي مجموعته القصصية "بيوت واطئة" يصير نص "الجرادة" عند محمد زفزاف عبارة عن تشكيلة من العلاقات الرمزية الثنائية. فالجرادة تمثل البنت قبل حصولها على ضالتها الغريزية والشمس تعبر عن مصدر الحرارة الغريزية أي القدرة على الانتقال إلى الفعل الغريزي. والسكة ترمز إلى العنصر النسوي. القطار والدودة تمثلان عنصر الذكورة. والقصة لها كذلك إبعاد رمزية أخرى مرتبطة بشكل واضح بمعطيات التحليل النفسي والميثولوجي ومن هذه الرموز مثلا: قضية غياب القطار أي تعطيل القدرة الرجولية في مقابل استيقاظ القدرة الجنسية الطفولية وجميع مواصفات العقدة الأوديبية توجد في النص[6]. القاص الميلودي شغموم يتوقف بشكل متميز في ارتياد مغامرة التجربة الرمزية في مجموعة "سفر الطاعة" ففي قصص "الطريق إلى روما" ص29 "الجبلان والمدينة" ص41 "الصخرة والأخطبوط" ص71 يستبدل الشخصيات الإنسانية بحيوانات ويحركها لتقوم بوظائف تعمق الإحساس بعبثية الواقع كما يوظف إعلام رامزة لها دلالاتها التراثية في الذاكرة الجماعية مثل (أيوب- حمدان بن الأشعت، عباس بن فرناس) في قصة الطريق إلى روما... إلخ) ومن خلال هذه النماذج الثلاثة التي عمدنا إلى انتقائها انطلاقا من حضورها الجيلي (بوعلو- زفزاف- شغموم) يتبين أن انخراط القصة القصيرة في مغامرة الرمزية لم يتحقق بشكل ناضج وواع واستيعاب عميق إلا في بحر السبعينات.
[1]- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ذ.سعيد علوش.
[2]- محمد فتوح –الرمز والرمزية.
[4]- محاضرة كولريدج سنة 1818 بعنوان "في النقد المتنوع عند كولريدج".
[5]- محمد يوسف القصة في الوطن العربي سلسلة كتاب الشعب.
[6]- د. محمد لحميداني، دراسات سيميائية لسانية العدد 6.
|