" مقام الارتجاف "
بين معابثة الحكاية ومعابثة الجسد
تبدو هذه السانحة الممهورة بوشوشة الحكاية مواتية لاستغوار جسد الكتابة القصصية في راهنيتها الإبداعية ( النوعية والكمية )، ومن لظى أسئلتها الملحة وقلقها الحاضر نفاتح هذه المقاربة النقدية بالسؤال عبر" مقام الارتجاف " (1) للقاص جمال بوطيب. والسؤال الضاغط والمحوري: ماهي قاعدة تلقيه وحظوظ تداوله في معمعان أجناس إبداعية مزامنة وتواتر حضورها بل تناسلها اليومي... فيم انحسرت سلالة القصة القصيرة في قائمة محدودة ليس بامكان إطلالتها الخافتة أن ترفع سحبة الغبن في الأجندات الاحتفائية.
هناك بالتأكيد تصاريف عديدة صيقت بأنامل بينلوب وان أوقاتا معدنية قد بزغت على شفاه الحكي وأحجمتها عن الكلام المباح.
ولان المقام مقام الارتجاف، ففي اعتقادنا أن النبش في دواعي هذا الإرتكاس القصصي المرتجف لا يسمح الآن ببسط مقاربة فيسوسيولوجيا القراءة القصصية تعتمد تصورا معرفيا منهجيا وإحصائيا لتراجع الإبداع القصصي، إلا أن هذا المقام لا يمنح من تركيبنا صورة مختزلة لهذا الارتكاس في واقع ثقافي عام يرتبط أساسا بتفاحش الأمية من جهة ومن جهة أخرى بأزمة القراءة والتلقي والتي هي عنوان كبير لانعطاف أنماط الاستقبال الرمزي من خطاب اللغة إلى خطاب الصورة الإعلامية بكل مستوياتها ( الإشهارية، الوثائقية، الإخبارية والفنية ) ومن متعة تفكيك واختراق المغالق النصية إلى لارتكان تحت دش الصور المركبة بعلامات الإغراء الحركي والجسدي واللوني أيضا.فهل مسلكيات التلقي تتجه بوعينا وسهونا صوب آفاق تمجيد الصورة الفضائية على حساب عزلة الكلمة المرقونة.. ثم هل النص القصصي صار قاصرا عن خلق دهشة المألوفة.. هل الإبداع القصصي صار ككل الكائنات الحية محكوم بقانون الأحياء أي التصور التدريجي باتجاه ظهور أشكال كتابية مفتوحة وأخيرا ماهي الآليات القمينة باسترداد بهاء الحرف ونقاء البياض وصوفية الصمغ ؟؟
لنترك إذن كل الإجابات المفترضة إلى سائحة أخرى ولنسري مع جمال بوطيب في بابل مقامة الرائق، مأسورين بيقين " الحكاية تأبى أن تكتمل " ومأخوذين بالحس الإبداعي المسكون بهمسة شهرزاد المحروسة ببلاغة البوح.فهو ذلك اليقين ما يزال بجماع نفس الجنوح المنذور لمراودة وترويض جسد الحكاية في خطية ميثاق وفي لا يتشامخ عليه وفاء شهرزاد للواقع بالحكي مرتبة.
هذا الميثاق / الطوق التعاقدي هو أولا وأخيرا " الحكاية تأبى أن تكتمل " لان في كنهها الثابت سؤال دائم، مشاغب لخرائط المعنى كما ينعتق إلى متاه اللامعنى إلى انوجاد في غير المعنى، إلى ( شيء نجده في النص ونراه أحيانا ونلمسه أحسانا ونشتمه احيانا أخرى. والشيء الذي يرى ويشم ويلمس لابد أن يكون جسدا، جسد النص كما قال الحاتمي مرة وطرب لقوله رولان بارت واصفا ذلك بأنه من روائع أقوال العرب " (2)
وكما أن اللامعنى أي جسد الحكاية يأبى أن يكتمل فان لعبة سردها تأبى أيضا أن تعلن عن هويتها التجنيسية، حيث مستحضرات الكتابة تروم كيمياء هاجسها معاينة جسد الحكاية قصد السمو بالمنطوق الحكائي إلى مدارج الاحتمالات المتحررة من قوانين التنميط واقانيم التصنيف...وتأسيسا على هذا الاختيار وهذه المغامرة المحفوفة بالارتجاف قبل تشكل القصة في مقام ينهض على تفويت حاهزية الأخبار لابدالات الخصوصية التي تتمثل في الإفضاء عن شكل خطاب حكائي مفتوح يجعل النص ساميا يتميز عموما بتآصر العلاقات النصية ضمن لعب أسلوبي يجاور لغة الشعر بلغة النثر، بين المعنى وشكله، الترميز والبناء.
قالت عيناها
_ سأعيد ترتيب العالم
قلت
_ بل نعيد ترتيب الحكاية
هذا التصور الحداثي، التجريبي لجسد الحكاية يتناص مع ما يقوله " ميشيل برنارد " حول الجسد والحرف ( ينبغي أن نقرا ونفكك الكتاب والرموز وان نقرا اللغة في تسجيلاتها الجسدية، فهناك حرف الجسد وجسد الحرف.)
إذن فترتيب الحكاية ضمن هذا الرهان لن ينهض إلا من خلال بحث مرهق في خزائن شهرزاد.. انه ليس ذلك البحت النرجسي المفتون برقصة نوار الشمس وإنما هو بحث منفلت إلى الأفضية البرانية عبر صوت السارد المسكون بمعابثة النص من خلال معابثثة الجسد وأيضا معابثة الجسد من خلال معابثثة النص.
فأيا كان المنطق فان الرغبة هي الغاية والغاية هي الرغبة، لان (النص جسد وهو جسد مغر حي وبما انه كذلك، فهو دال ومضايف للمعنى واللامعنى (3)
هذا النزوع نحو اكتشاف الجسد انطلاقا من مفاتيح أساسية في الشهوة الروح والرغبة يلتقي في عملية تناص مع الشهوة السبينوزية التي أسست لثورة جسدية مهدت لذاتية حذاتية تعيد الاعتبار للجسد كفاعلية وتعدد وكظاهرة حيوية، ولا بد أن نشير إلى نص سبينوزا لكي نستجلي عملية التناص هذه ففي الأخلاق يقول ما يلي:
الروح عبر أفكارها المرتبة بالجسد هي بالضرورة واعية بذاتها وبقوتها، هذه القوة حين ترتبط بالروح وحدها تسمى تسمى قدرة ولكنها حين ترتبط ولكنها حين ترتبط بالروح والجسد معا تسمى ( رغبة ) فالرغبة ليست شيئا آخر سوى الجوهر نفسه للإنسان والصعة (4) وليس هناك أدنى اختلاف بين الرغبة والشهوة وعليه فالشهوة هي الرغبة في حالة وعيها بذاتها.
رغبة هي عبارة عن سبر دؤوب من غير مهادنة مع الحكاية ومن غير صمت مجاني فسواء على السطح أو في أغوار الحكاية فجميع العلاقات البنائية تلتئم في جدلية المراوحة بين أيقونة الجيد وجسد النص.هذه المراوحة تنسحب على جل النصوص في قامة " مقام الارتجاف "وهي ذات استحظار مائز..فالفضاء واحد.. خاضت للجسد كما للغة..فضاء تلاقح بامتياز ووحدة كوجيطو جمال بوطيب ( أنا أحب إذن أنا اكتب ) أو ( أنا اكتب إذن أنا أحب ).
فالحب لديه هو الشمس التي يرقص حولها الوجود، بل وتنظم بها مدارات الحياة.الم يكن الحب إلها تجسد في صور شتى ما بين كوكب الزهرة وارب الأنوثة. كما أن تمثالا ضخما لعضو الأنوثة يتصدر مهرجان باخوس.وإذا كان الجسد هو المعبود فان تمجيد الحياة هو المطلوب وقد سئل الروائي لورانس لماذا تسرق رواياته في وصف مشاهد الحب وتعصف بما تعارف الناس على انه قيمة وان ما عداه ينبغي ستره فقال: خشيت أن يقضي التأدب الزائد والتقليدية السائدة في المجتمع البريطاني على إرادة الحياة فيه. يقول القاص جمال بوطيب في قصة " مقام الارتجاف " في ليلى حيت العتمة سيدة الافضية، هزمتني لما لتمتني، لثمت شفتي ووجنتي وامتدت يدك ماكرة إلى دواليب جسدي، عركت السفح وعبثت بما استعصى وما انبسط وأمام سحر المكر بحث لك بضعفي وعند عتبة الباب النحاسي أو تبخرت أو ذبت وكأن رجفتي لم تعجبك أو جسدي لم يكن كما رسمت.
رجفت الجسد أم رجفة الحكاية ؟ من اجل تجاوز انفصام العلاقة باللامعنى لأي جسد الحكاية والاحتفاء بالكينونة الانطلوجية.. رج الرغبة الأسرة.. تقليب تربة المعنى الظامئ لدفاق الامتداد والتعدد.. إذكاء جمرة التوحد كي يحتفل الجيد بمتم عريه المرغوب في أكناف أفضية أسطورية.. القبض ختاما على تورمات الفاكهة المحرمة بيد البراءة وكأن وليلي أمست مخدعا لشبقية تلي بالخطيئة الممجدة.. هي إذن دعوة للحظة البدء.. الزمن الأزلي ضمن علاقة حميمة يقيمها بارت بين الكتابة والجسدية نلمس آثارها في كتابة ( إمبراطورية العلاقات )..فالكتابة هي علم المتع اللغوية باعتبارها نشاطا رمزيا وفعلا لازما ولذة إنتاج وممارسة اللعب ومغامرة للدال.. إيحاء وخلخلة للتواصل، فهي تتخذ من اللغة غاية لها، فالكتابة هنا جسد مغر يجد فيه كل عشاقه على اختلاف ثقافتهم ومستوياتهم ما يرغبون فيه ورولان بارت يقول ( إن الحقيقة الجسدية ضرورية للذة النص ) (5)
الجسد المرتجف نشوة وانتشاء يؤلف المدارة التقاطعية الضوئية للتآصر، إن هو رديف وتوأم لجسد الرغبة حيث الانفعالات والإمعان الجسديين ينهضان على إيقاع اللعب من المرئي المطلق إلى الجسدي الوظيفي المحدود.. فالرغبة تستدعي رؤية تامة للأيقونة الايسورية المتحررة من أغلال الهامشية والمسكوت عنه، مثلما إن القاص جمال بوطيب يحبك استارة شهرزاد وقماش بينلوب على مقاس معشوقته بكل مناولات شهية فان معابثة متن الحكاية في سفر بصري بين الموضوع وشكله وبين الشكل وموضوعه.. سفر يتغيا اكتشاف التخوم السحيقة هنا وهناك.. تخوم التوحد والتعدد.. التوليد والخلق.
( عندما كانت عيناي اصل العالم كان للحكاية راو وشخوص، أعطى الراوي لشهرزاد كلمة السر ولقنها دروس الحكي والتوليد وتقنيات الخلق والإيهام ).
الرغبة إذن في افتضاض حفافي الحكاية هي ذات الرغبة التي توجه الجسد الحكائي باتجاه عري المتخيل وبهذا فهي تقدم على مائدة " مقام الارتجاف " أطباق الاستطعام المشتهى في مائدة رومانسية أحيانا ودراماتيكية أحيانا أخرى.
إنها لعبة تتعالق بيقينية الشهوة وبيقينية التفرد لاعتبار أساسي وهو أنها _ الرغبة _ تعلن عل العديد من موضوعات المعابثة الجسدية والنصية ب ( لغات هي متداخلة: الخصر والردف والساقان والصدر. كلها تتكلم في وقت واحد ألسنا مختلفة تماما كقناة جسدية متعددة الموجات استعصت أرعدها على مقعر الإيقاع ) ص57
هي اللذة المراودة، المراودة..المقتنصة و المقتنصة بمهام العاشق كيوبيد الممتطية عربة " هورس " لتحرر إمبراطورية الجسد " الايزيسي " باختيارات استيقية تنظم في هيكل " المقام " وكما أن لكل مقام مقام فان تفكيك أي مقال قصصي والنقاد عبر مغالقة يكشف عن مجاهدة ذهنية وجسدية لتحقيق رغبتين محوريتين:
1_ رغبة كتابية تدرك لذتها في معابثة جيد الحكاية بأنامل الحساسية الجديدة التخلفات عبر _ النوعية بتعبير الكاتب الكبير ادوار الخراط وذلك بانفتاح النص على أنماط تعبيرية متعددة ( حكي، شعر نثري، تشكيل صور، بياضات دالة...) وبالتالي شعرنة اللغة لتحقيق تعاليها على السرد السطحي الكلاسيكي وتعميق انفعالات التجربة الذاتية.
2_ رغبة حسية ايروسية تتبدى من خلال وصر مترفة بالدهشة والجرأة في كشف المستور كي تستدرج القارئ إلى مشاهد من السرد البرونوغرافي باعتماد تقنيات توضيب عنيف.. هو مزيج من موضوعات الجسد ورموزه.. فحمرة الشفاه نار للجسد والأصابع تركض كالأحصنة على التضاريس الناعمة، أما الخشوع في محراب الجسد فهو تتويج لحالة الحلول والتوحد.( وفي لحظات تفكين أزرار روبك الأصفر الفاقع اللون وتهمسين
نار هذا الجسد شفاهك
حديث يديه جنته
توحدك به خشوعه
النار هنا توحي بالرغبة في التقاء الحب بحرارته أو ليس أكثر مواضع الجسد إثارة إن ينفرج الثوب كما قال بارت مرة أخرى، إن ما هو مثير كما وضح التحليل النفسي هو ذلك الوميض المتناوب للبشرة تلمع بين قطعتين من الملابس بين حافتين ( القميص المنفرج ) ذلك الوميض هو الحقيقة، كل الحقيقة فما يغري هو ذلك التعري التدريجي.
وأخيرا تلتقي في هذه التجربة المتميزة حافزية الرغبة بحافزية الكتابة فالكتابة تخترق الرغبة الحسية بكل ما تمتلك من أزاميل ومسابر استكشافها مثلما أن الرغبة الحسية من جهتها أيضا تخترق جسد الحكاية لتعابث معمارها.وهذه الجدلية التعاقدية بين جسدين ( الجسد الو ضيفي، الايقوني المغلق، وجسد القصة المفتوح ) بالرغم من كونها تحمل أحيانا علاقات متوترة ولا متكافئة بين الذات المنكتبة والانتى، القصة وجسدها، فهي غالبا ما تتأثث بمعجم باذخ الأناقة والطراءة.ولا ( يستطيع نص اللذة إلا أن يأتي قصيرا ).
إن الحكاية عند المبدع القاص جمال بوطيب جسدان في جسد واحد ينضح بعطر رغبته في الاكتمال والزواج تم الارتجاف في حضرة رقصة ممهورة بطقوس خطيئة البدء.
الهوامـــــــــــــــــــش:
1_ مقام الارتجاف: مجموعة قصصية ثالثة للقاص مال بوطيب، الطبعة الأولى 1999
2_ مقدمة " الغيدامي " في ترجمة " لذو النص" لبارت.
نص الورقة المقدمة التي أسهمت بها في حفل توقيع المجموعة القصصية " مقام الارتجاف " الذي نظمه فرع اتحاد كتاب المغرب بفاس بتعاون مع جمعية الأعمال الاجتماعية لوزارة التربية الوطنية بفضاء نادي هذه الجمعية. وذلك يوم 18 فبراير 2000.
|