عن الحقد والتسامح لجوليا كريستيفا
جوليا كريستيفا
كل من يعرف جوليا كريستيفا ، بتفردها، يصعب عليه وصفها أو ضبطها لإنها سيدة الهنا والهناك في نفس الآن .. رشيقة و هادئة .. ماجنة وخجولة.. مندفعة في قضايا الراهن ومتوارية عنها أيضا … بعيدة عن أضواء المنصات والكاميرات والمكروفونات والإعلام بشكل عام…
وصفها رولان بارت في مقال له صدر سنة 1970 ب ( الغريبة ) ، و غربة جوليا كريستيفا لم تتأت من هجرتها وقدومها من هنالك ، من بلغاريا سنة 1966 واستقرارها بفرنسا ، وإنما من حيث هي دائمة الترحال في ذاتها وفي الأشياء معا . إنها لاتستقر لا في الذات ولا في المكان ولا في الأشياء إنها باختصار عدوة للجمود والموضوعات المنغلقة .
يقول بطل روايتها ( جريمة قتل في بزانس ) الصادرة في 2004 عن دار النشر ( فايار ) je me voyage ) ( أنرحل )، وتنطبق نفس القاعدة على الراوية والقارئ على السواء . إنها تحيل في نفس الآن على العبور بين اللغات والأشكال وعلى تحول الحدود النفسية وهذا لا محالة شكل من أشكال الهجرة الأساسية بالنسبة للفكر في شكله العام وفي تطور الفرد الإجتماعي . ولعلنا نجد تأكيد هذه الفرضية في كتابها : الحقد والصفح la haine et le pardon .
الكتاب يقع في 700 صفحة ويضم أربعين دراسة ومداخلات ومقالات نشرت في العشرية الأخيرة وجل النصوص تتراوح بين سنوات 2001 و2005 وبعضها لم ينشر والبعض الآخرتم تنقيحه . ويمكننا من خلال هذه النصوص أن نستشف تنوع الترحال بين الفضاءات السياسية والثقافية ( الصين ، أوروبا ، اللآئكية ، العائق ، تنوع اللغات ) الثقافة الجنسية ( الأبوة ، الأمومة ، الجمال ) أو بعض التطبيقات على السيكولوجيا ( كدراسة الحالات وتحليل بعض المفاهيم ) أيضا ( انتقال وصراع الأديان ) و تشخيص الرؤى الأدبية المعاصرة ( بوفوار ، دوراس ، بروست ، أراكون ، سولان ، وآخرون ) .
وقبل أن نتساءل كيف التأمت كل هذه المسارات المتعددة والمختلفة في الحياة الفكرية لدى جوليا كريستفا نتوقف عند هذه الجملة الدالة في الصفحة 31 (( إنني لم أستشعر بعد هذا الطبع المنغلق … فقد علمتني التجارب أن أعيش في فضاءات مفتوحة )) وتعلن أيضا وبصوت مسموع (( إن من لايملك تجارب متعددة سيعيش حتما على هوية منطوية على الذاتية والأنانية ، محافظا على حدوده ومبادئه التي قد تكون لامحالة عائقا ضد التجاوز . التجربة إذا تمنحنا فرصة ترسيخ براهيننا ، إنها تورط محددات الهوية وأساليب المقاومة ولا تترك لنا الكثير من الخيارات حيث نسقط في الإنهيار والشك في القيم واليقينيات . لقد حاولت في حياتي الخاصة والفكرية أن أقيم في عمق الإشكال : ( ما جدوى مشروع بدون برنامج ) وواقع مصادفة دائمة تجاه الظواهر ، اتجاه الخطابات ، اتجاه المعنى واللامعنى ، الأشياء التي تحولني من الكائن إلى الممكن ( وهذه الرغبة الدائمة في أن أحيى خارج ذاتي .)
يبقى إدا علينا أن نفهم كيف تجانست جميع هذه المسارات والتيمات المتعددة .. وأين ستلتقى كل هذه السبل … إن المسألة لاتستدعي الكثير من التفكير لأن الجواب يوجد لدى فكر الأنوار و التيارات الأنسانية المعاصرة ، وهذا ما تطمح إليه جوليا كريستفا.
إنه لإشكال مقلق ، يستدعي الكثير من التوضيحات . ألم يطعن البنيويون في النزعة الإنسانية ؟ تجيب كريستفا ( إنني أنتمي إلى الجيل الذي استخف بالنزعة الإنسانية الفتية .. لأنها في رأيهم فكرة ملتبسة .. جوفاء .. مرتبطة أساسا بنزعة يوتوبية أفرزها عصرالأنوار ومواثيق ما بعد الثورة … واليوم يبدو لي أنه من الممكن بل من الواجب أن نعيد مقاربة هذه الأفكار بأسلوب مغاير لأن ما يسمى بالحداثة هو مرحلة أساسية في تاريخ الفكرالإنساني … فقد تمكنت العلوم من أن تقارب ما بعد الألوهيات وتتطرق لكل ماهو إنساني كمواضيع للبحث في العلاقات الإجتماعية ، والأنساق الأبوية ، و مذاهب وتشعبات الحياة النفسية، وجينيالوجيا اللغات والأعمال الفكرية . لقد اكتسبت الإنسانية معرفة واسعة بغنى ومغامرات الفكر الإنساني المثير للقلق والمصطدم دائما بحركات مقاومة تبدعها أنواع عديدة من الرقابات .
تتساءل جوليا كريستفا : أليس من الغرابة الجمع بين العلوم والأديان ؟ ألم يكن سيكموند فرويد ملحدا ومؤازرا للتنويريين أكثر من إيمانه بالمسيحية ؟ إن اكتشاف اللاوعي أظهر أن مختلف العقائد والنزعات الروحية تستثمر الطاقات السيكولوجية التي تجعل من الفرد كائنا ناطقا ووعاء للثقافة لا آلة للتدمير … إن أهمية القانون والإهتمام بدور الوظيفة الأبوية ودورالرغبة الأميسية في نحت الشخصية الوجدانية للطفل لاتمكننا فحسب من معرفة مغالق التجربة الجوانية التي يقعدها الإيمان وإنما أهم من هذا أنها تطهر النفس من الحقد عن طريق تجليات الحب . وتضيف أن هناك رؤيا جديدة بدأت تتشكل فيما أصبح يعرف ب ( رغبة المعنى ) المتجذرة في الرغبة الجنسية وتوثر التسامي الثقافي على ردود الفعل التقليدي .
ولنعد إلى أحد محاور الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه la haine et le pardon إنه مفهوم التسامح ، ولماذا أولت جوليا كريستفا أهمية لهذا المفهوم ؟ وما علاقته بكل ما سبق ؟ تجيب : إن مهنتي كمحللة وباحثة قد أقنعني أن الإنغمار في التجارب التحليلية قد يدفع المريض إلى التماس التسامح ليس بمعنى محو انوجاده النشازوالمختل ولكن بمعنى التجدد السيكولوجي والفزيولوجي أيضا .
وأخيرا إن ما يصدمنا لدى جوليا كريستفا هي هذه الطاقة الدائمة فيها ، الدؤوبة والمغا مرة في اكتشافات مفاجئة وأسفارجديدة ، ونادرا ما نعثر على مهتمين قادرين على الإنتقال من التحليل الأدبي إلى الإصغاء للحالات السيكوباتية إلى الكتابة الروائية إلى إثارة الأسئلة الإنسانية الراهنة .
لماذا الرواية ؟ تجيب جوليا كريستفا من أجل البحث عن معنى للحالات الخاصة حيث تغيب الأنا ولانجد سوى مشكال
kaleidoscope اللغات والرؤى ، ايقاعات الحياة ، وتواريخ البشر. وتضيف يلذ لي عادة أن أكتب رواياتي بالليل ، في عتمة الذاكرة ، هذه بعض الحقائق لايمكن أن نبوح بها إلا عبر توضيب وكولاج ، عبرشخوص ومتخيل وطريقة مغايرة في التفكير والرغبة في الوقوع في الإستشكالات والأسئلة المقلقة
عن كتاب la haine et le pardon إمكانيات وحدود علم النفس لجوليا كريستفا . تقديم وتعليق بيير لويس فور
|