في انتظار(PDG)
1
- يوم ككل الايام
أصعد الادراج ، و أمشي في كولوار رمادي طويل ، باتجاه مكتب سيادته ، مجهدا نفسي حتى لا تفلت من كعب حذائي أية طقطقة ، و يخيل إلي أنني أمشي على الحبل أو مثلما يتهيأ للبعض في كابوس مفزع أنهم يعدون في فراغ لا قرارله ...
وأنا أمشي .. يسقط ظلي أمامي على البلاط الملمع ، ظلا طويلا يقصرشيئا فشيئا كلما دنوت من مسقط الضوء .
و ككل يوم تقع عيناي الذابلتين على يافطة الرخام الايطالي التي نقشت عليها بأحرف بارزة "مكتب السيد الرئيس ". على الجانب الأيمن من بابه كرسي مهترئ .. متداعي المفاصل ، أحدث احتكاك مسنده بالجدار خدوشا. سأقف بالباب هكذا مستقيما مثلما تعلمنا أن نقف في صفوف المدرسة الابتدائية ... وأهم كالعادة باشعال سيجارتي الاولى ، غير اني أعدل عن ذلك عندما أذكر فجأة كلام الشاوش "رحال" العجوز "ممنوع التدخين أسي .. إذهب الىالمرحاض و افعل ما شئت " ويبللني شلال الخجل العارم ، فاستعد لكل الاحتمالات و الاسئلة المباغثة و على كل حال فغياب سيادته هذه الايام اعطاني على الاقل فرصة التمرن على اجابات جاهزة .. سأهزمه - قلت في نفسي - بل سأقنعه و حجتي في ذلك لغة مقهورة تتفصد عرقا .. سأخبره في البداية بأنني جئت لزيارته لليوم العاشر و بأنه كان في مهمة بنيويورك و أهنئه طبعا على عودته بالسلامة "على سلامتك اسيدي .. " ثم انتظر منه ردا لائقا "الله يسلمك !!!" غير أنه يلزم صمته الصارم و ترمقني عيناه كعادته من فوق نظارته المذهبة ، واستجمع أنفاسي لأسترسل في دوري بعد ان أكون قد غيرت من وقفتي من اليمين إلى اليسار كي أريح جسدي المرهق من فرط الانتظار ، ثم يولع هو سيجارته الفاخرة من نوع "الكانت"
-انه يدخن "الكانت" -قال لي الشاوش في اليوم الاول . "ليس في مكاتب الشركة شخص يدخن "الكانت " غير السيد الرئيس " و أمهله لهنيهة ينهم "الكانت" بشراهة و تلذذ حتى إذا ما استرد توازن مزاجه افتح آنئذ ملفي دون تردد وأنا واثق بأن أوراقي ستزعجه و لذلك سيقول لي ناهرا إياي "قلت لك بلاتي شوية " و عيناه على المروحة في السقف تطحن الهواء والذباب والنمل الطائر والنحل والفراشات العابرة سهوا ... سيضغط بمقدمة حذائه على زر المنضدة ... فيرن جرس ما ... يدلف العجوز مقوس الظهر ، تبدو طيات بزته الكاكية ، متآكلة عند الرقبة والكمين وفتحة الجيب على الخصوص . يقول بصوت خافت مرفوق بانحناءة "نعم سيدي الرئيس " و سيأمره بكلمات مقتصبة وسيجارة "الكانت " تتدلى في استرخاء و دلال في زاوية فمه اليمنى و رمادها المتصدع يوشك أن يسقط . "ديه إلى مكتب ايداع الطلبات في الطابق السفلي "
ويرد الشاوش العجوز مرة أخرى "نعم سيدي الرئيس " -قل لي أين تلك السكرتيرة ال ...قل لها تأتي و معها سندويشين و عبوتين بيرة .
و كالعادة سيخرج العجوز و أنا أسير خلفه متأبطا ملفي ، أسير خلف قامة من السنين ... لا أحد منا يسلم من لعنة هذا الزمن ... هو بجسده المنهوك ... تبعات الحياة ... النكد اليومي . أما أنا فلا زلت في الخطوة الاولى ألتمس مسلكا في المفازات المعتمة ...
في الطابق السفلي سيقف العجوز أمام باب رمادي متين و سيقول لي بعينين مكسورتين قبل أن يدلف وحده " ستبقى يا ولدي مدى الحياة بين هذه المكاتب طالع، هابط مثل الدلو "
2- اليوم العاشر
استفقت بعدما كنت أحدث نفسي في صمت ، شعرت في لحظة ما أن كل شيء لم يتزعزع أمامي و تيقنت من أن الصمت يفسد على الانسان اكتمال ذاته في الواقع. ترى ماذا فعلت بالامس ؟ لست أدري كنت قابعا في ذات الركن وجها لوجه مع هذا العجوز اقرأ في تجاعيد وجهه مكر الزمن، جالسا كان علي الكرسي المهترئ مثل ليمونة ممصوصة يدخن و يدخن ، ينفث الدخان مثلما يقذف بصقة على شبح ماثل أمامه ثم ينهض في تباطؤ و كأنه سيهم بفعل شيء ما ... كأن يغلق مثلا باب مكتب ليس به موظف أو يتفقد صناديق المراسلات أو يسأل عن الكاتبة التي تشاغبه كل صباح. صرت مثله أعرف وأنا مغمض العينين أي الابواب فتح من خلال صريرها الخاص ، صرت عالما بأدق الامور داخل ردهات الشركة أضبط ساعتي مع انطلاق ضربات الآلة الكاتبة على الساعة التاسعة و النصف و توزيع فناجين القهوة والشاي مع العاشرة وزعيق الشاحنة قبل الحادية عشرة و قدوم ساعي البريد في الثانية عشرة الا ربعا و بعد كل هذا بقليل أسمع نقارات حذاء العجوز قادما ليخبرني بكل هدوء بأن السيد الرئيس سيمدد من زيارته لنيويورك نزولا عند طلب السيناتور أو لسوء أحوال الطقس بالمطار هناك أو على الارجح لتعثر المفاوضات بشأن صفقة ما ... و على أية حال فنيويورك قريبة ... قريبة والسيد الرئيس قد يحضر غدا لا محالة ... ويربت على كتفي بلطف ثم يمسك بيدي ويستدرجني الى الادراج ، فالطابق السفلي فالى الباب الخارجي و أعود من حيث أتيت ، مكسور الخطى ، أرنو الى الشارع الصاخب في مدينة غريبة الاطوار تكبر مثل الفقاقيع ... وحين أقف في مكان ما .. في وقت ما .. أراها تدير ظهرها و ترتدي معطفها الشمالي و تحمل حقائبها الى المتوسط . اجلس على كرسي الاسمنت تلسعني برودته و استحمل ذلك على السير في شوارع لازالت تحمل أصباغ قديمة وإشارات مرور بين الخطوة و الخطوة . بين كرسي الاسمنت و مقهى " الجزيرة " حاجز زمن القضبان الحديدية المتقاطعة، ذات رؤوس مسننة
كنت حين أصل الى هذا المكان تعتريني نزوة القفز ... لكن ماذا بقي... المقهى مقفر ... الكراسي الحمراء يعلوها الغبار و بعض أوراق الصفصاف ... وأمكث في مكاني أفتح ملفي من جديد ... أتفحصه ملف جاهز إذن فمتى سيعود السيد الرئيس ..؟
3- في يوم ما
استقبلني العجوز بابتسامة عريضة أوحت إلي بأن سيادة الرئيس آت بالكاد . في ردهات الشركة حركة غير عادية ... يفتح باب هنا و يغلق باب هناك ... الانارة ساطعة في جميع الجنبات والزوايا ... ضربات الآلة الكاتبة لا تهدأ ... تعطي لمن يسمعها الانطباع بأن السكرتيرة تعلك الشوينكوم مرافقة ايقاع ضربات الآلة الكاتبة في سرعتها ببلاذة ...
من قبل شاهدت موظف مكتب الشؤون الاجتماعية يسحق بقدمه اعقاب السجائر عند المدخل أما اليوم فهو يلقي بها من النافذة ... الوجوه حليقة حتى اللمعان ... ربطات العنق متدلية بعناية فائقة ... رائحة أحدث مركات الصابون تفوح من تحت الكوستيمات المكوية بدقة بالغة ... العجوز واقف أمامي ... يسوي طربوشه الكاكي بين الفينة و الاخرى ... ينظر إلى قامته في اعجاب ... بدأ يغمرني شعور بالارتياح ، أنساني بعضا من صداع الانتظارات الطويلة الواهية ... قلت في نفسي ها قد فرج الله كربتنا و بزغ اليوم الموعود ... وفجأة.
سمعت جلبة و ضجيجا يصعد مع الادراج شيئا فشئا ... حشد من الموظفين يرافق سيدة ... رمقني العجوز بنظرة وجلة تنم عن وضع طارئ ثم ضرب كفا بكف و انتصب واقفا مثل جندي فاجأه دوي قذيفة...
و قال :
-نهار كحل ، جات المسخوطة مرة أخرى ...
-قلت من ، الكاتبة المشاغبة ؟
رد ضاربا براحته على فخديه كامرأة في مأتم
-آش من كاتبة !؟
من هي ذي إذن ؟
ما كادت كلمة زوجة الرئيس تزهق من فيه الخرب حتى داهمنا جسد امرأة بدينة دكالية القادمة ... تزبد وترغد و تلعن الشركات وأصل الشركات والمهمات والصفقات وكانت كلمات الموظفين تتقاطرعليها كماء الورد من كل جهة الا ان مهادنتهم وشروحاتهم الفجة ما كانت تزيدها الا تعنتا وسخطا في تلك اللحظة أدركت حقيقة ما يجري داخل الشركة نزلت الادراج في تثاقل أشبه ما أكون بمقاتل مهزوم منحدر في تل من الشوك وكان صوتها اللجوج لازال يتردد في الكولوار "واش مزوج بي ولا بنيويوك يا عباد الله " .
|