أوراق من تحت الردم
كانت فوق كفه العريض
مدينة بلاخرائط..
ليال بلاأحلام مبيتة..
وأشجارأرز توزعظلالها
على شرفات الشرق والغرب بلاحساب...
وحدها سترة خليل أمامي الآن علىجداريحرس انحناءه .. ذكرى فرح أفسدت دبكته نيران صديقة فيما سلف...
عرفته فيباريس..كان يعشق فيروزوقصائد نزار وجوازات السفر.. مثل طائر الدوري عرفته هناك ..
كان يردد علينا دائما في مقهى (لوريون) بالحي اللاتيني : أيها الرفاق متى نصيركالبحربلاخرائط وبلا ألغام بينناعلى الحدود...
صيف ليس ككل الأصياف ... شمس جويليه تقذف بحممها على الجنوب. لافرق بين أن نكون تحت سقف أوتحت قصف.. فالقصفعلى التلال ألوانا.. ولم ندركيف اندلعت النارمن تحت أقدامهم .
هاديا هنا وخليلهناك في (لارناكا) يحلم بجسديهما يستلقيان على ساحل بيروت عند الأصيل، حين يكونالرمل ناعما وأملسا مثل فروة بساط الريح البابلي...
"الموبايل" على المنضدةالنحاسية .. هاديا ترابط بالمطبخ .. تنفض يديها من طنجرة (التبولة) ..فجأة تشد علىرأسها وتعدو في خندق الأدراج الواطئ تحت لعلعات الرصاص .. وائل يتبعها وجلاعلى متنطائرة من ورق الدفتر: بابا .. بابا.. أوه مافي حدا ياماما ؟
تمتزج فيحدقتيهما خلسة دموع الغياب .. من يظللهما من " أمطارالصيف" القذرة وقنابل "العناقيد" الآثمة...
__ آلو .. آلو .. بابا فين ؟
__ باباهينا .. هيناهو..
__ آلومين بالتيليفون ؟
__ الخطوط مقطوعة ... ما في حدا بيرد (صوتالعلبة الصوتية يلوك حروفه كالببغاء) : ليس لديكم رسائل أو مكالمات بدون رسائل.. المرجوالإتصال لاحقا.
__ ما في حدا ياماما ؟
__ أيوه ما في حدا ياعزيزي ...
هاديا تقفل (الموبايل) .. وائل خلفها يبكي .. يمزق طائرته .. يأخذ قلم رصاصويكتب على دفة المطبخ :
تجيء الطائرات..
طائرات..
تخطف العاشق من حضنالفراشة
شكرا يا عمي محمود.
هاديا تهيئ ( التبولة ) وكعكة لعيد ميلادأجهضته "أمطارالصيف" مثلما أفسدت دبكة فرحهما نيران صديقة فيما سلف...
لكن مابال خليل مابيرد علموبايل . منذ سنين هاجرإلى ( لارناكا ) كرئيس لمطعم بفندق (الأوقيانوس) .. هاديا أوشكت أن تنسى صورة وجهه المكتنزوصوته العميق كبئر .. صوتهالذي يجلجل من تحت شارب ستاليني كثيف و معقوف كقرني ثور(الكوريدا الأندلسي
مابين القصف والغياب ..خليل من ( لارناكا ) يحدق في سماء لم تبرحها نارالتنينمنذ ثلاثين عاما . هاديا تخمن الليلة أنه يتوسد حقيبته في باحة المطارويحلم بجناحينوبوائل أمامه في الصالون يرقص على ( الهابيبورذاي) مغمورا بالأنوارالقزحية والشرائطالملفوفة والبالونات المزركشة في الهواء والأفواه الصغيرة المعفرة برغوة القشدةوصوت فيروز يصدح على البلكونة :
سنرجع يوما إلى حينا ..
ونغرق في دافئاتالمنى ..
سنرجع مهما يمرالزمان..
وتنأى المسافات ما بيننا
هاديالاتسمع في هذه الظهيرة غير هدير جرافات تشم جسد الجنوب بندوب غائرة وخرائب همجية .. وأزيز طائرات أشباح لاتأبه لنظرات أطفال كل جرائمهم أنهم مدججين بالبراءة .
حيطان تتصدع ..أسوارتطفح ببثور"عناقيد" آثمة.. غباريولد من غبار.. رائحةالكبريت تملؤ كل المعابروالدروب والأدراج والممرات.. كانت أسراب الصقورتمطرعناقيدها اللقيطة لتعبث بالشبابيك وتبعثرأصص الحبق واللبلاب والدوالي وباقاتالورود والحدائق المعلقة والحدائق المؤجلة إلى نيسانها القادم ... والموبايل كمانلا يرن .. أين خليل ؟. وما عنوان سقفه من قبل أن ينهارالسقف عليهما من دونه .. وهليصله وجع الأرض تحت جزمات الإجتياح الغاشم .
هاديا ووائل يقبعان تحت المنضدةالنحاسية القديمة التي جلبها جد خليل من إستنبول ( أيام سيق مع أقران حيه لأعمالالخدمة العسكرية بالسخرة تحت سياط العثمانيين ...) كانا يقبعان مثل جنديين في خندقعلى خط النارالأمامي. نظراتهما ممهورة بالدهشة والرعب والترقب .. والموبايل كمانوكمان مابيرد...
كيف انفجرا فجأة بالبكاء.. وجهان يبكيان .. أوربما تهيأ لناعلىقناة ( الجزيرة) أنهما يبكيان.. يقينا أنهما لايبكيان فقد ألفا هذا الدوي منذ بدأالقصف ، بل باتا لايتصوران حياتهما قد تستمربدونه منذ ثلاثة عقود أوأكثر.. لذا فقدباتا يرغبان فيه. هيا إذن.. مزيدا، مزيدا أيتها الصقورالمتوحشة ، أمطريهم بما شئتمن أمطارك الصيفية البغيضة
دوي تلوانفجار.. تلوفرقعة.. تلوهدير.. تلوأزيز.. تلوصراخ.. تلوعويل ..تلوصمت
لقد صارا يسخران من صورالموت المتربص بهما.. أجلإلى هذه الدرجة صارا يسخران من لعلعات الكلاشنيكوف وصليل الآليات وهديرالمحركاتوجلبة الغزاة بين الدروب .. كان كل هذا (الشرق الجديد) يزحف بتوأدة الثعابينالرقطاء من تحت الشرفات المطلة على جنائن الزيتون والتفاح وغابات الأرز.
-- هلبمقدور منضدة نحاسية قديمة أن تدرأ قذائف طائشة من صقورلاتسري دماء فيأسلاكهاالنحاسية..؟ هل تستطيع الحيطان أن تدفع بصدرها الآجوري العريض لتصد وابلالعناقيد العبأة بزعاف الموت ...
لقد شرع السقف من فوقهما يتكلم .. يتألم .. يتمزق.. والحيطان تتداعى .؟ لاجرم أنها ستؤول للسقوط .. كل شيئ من حولهما طفقينهار.. المنضدة النحاسية القديمة وحدها تقاوم الزلزال وترفع الردم .. لكن السقفيقينا سينهار.
(.....................................)
لقد انهارالآن تماماعلى الجسدين والكعكة و(التبولة) والشرائط القزحية والبالونات الملونة وحبالالأنواروالطورطة المكللة بالشموع وصوت فيروزوعيون الصقورما تزال على أكمةالأرزتراقب البقاع والتلة وحقل التفاح .
هكذا انهارالسقف كما شاءت هاديا ووائللاكما شاءت الطائرات والمدافع...
هاديا تضم وائل إلى صدرها المضرج بدم الشهادةوكأنها تربت على جسده الغض في لحاف وسنة لذيذة وهي تغمغم يله تنام سها .. يلهتنام سها
أين خليل..؟ هاجسداهما متعانقان في أبهى توحد .. ما أفضع هذاالحقد وما أروع هذه الصورة وما أجل هذا الرحيل الملحمي إلى مواعيد حفرت تاريخهاعلىشواهد القبورالمرمرية...
خليل في مطار(لارناكا) يلعن الموبايل:
__ آلو.. آلو..
__ ...........
__ ما في حدا بيرد
__ ........
عين الكاميرات علىقوافل النازحين إلى الشمال .. ( عيتا الشعب ) ، (مرجعيون) ( عيترون ) ، (مروحين) ، (شبعا) ...
أطفال يعدون في المسالك الجبلية الوعرة وعلىالجسورالمتداعية...
ياه..ياه.. كيف رأيناهم في الطريق يكبرون كالرجال ويحملونأشياء الوطن بكبرياء الإنتماء ، يحلمون بدفاتر يرسمون عليها أشجارأرزتتوضؤبنارالشرق واقفة...
هناك في تلك الليلة القائظة تعرت الأرض عن سرميثاقها الدفين ...
من أين لهذه السقوف المتهاوية على الأجساد الناضرة كل هذا الدثارالحنين ..؟ومن أين لهذه السواري والأعمدة كل هذا العناق الرؤوم..؟
قيامة مابعدها قيامة ... لهاث حاركأنه يصاعد من جوف بركان ... بكاء كالضحك وضحك كالبكاء .. أسنان تعضعلى تلافيف الفساتين والدراعات البدوية كي تلاحق الأقدام الهلوعة خطواتها الهاربةنحوموتها المدبرفي ردهان الصقور... يبدو من الشرفة طريق الشمال طويلا .. طويلاونافذا في العمق القاني البعيد.. وتبدوالعوائل على الباصات والكاروات والدوابمتهالكة على رزمها وحقائبها وأسرتها الباردة... صورلبقايا أحلام طمست فراديسهاخرافة (نهاية التاريخ...)
شيخ ينقل من راديو شاحنته أخبارا عن فيالق أرزعنيدلاتركع لطوفان "أمطارالصيف" ولا "للعناقيد" المعبأة بنزوة الإبادة ...
خليلتتدافعه الأجساد في المطار... أصوات ما بالداخل تنبؤه عن هاديا ووائل . كانت يد علىقلبه ويد على الحقيبة وعلى المدرج يهرع في أي اتجاه .. وكان يرنو إلى (بوينغ) الشرقالأوسط الرابضة هناك على المدرج ببلاهة .. يقينا أن السقف قد انهارعليهما مثلماانهارعلى الآخرين في القرى القصية همس لنفسه
ليل (لارناكا) يمتد ساخناوعبقا برائحة الحرائق القادمة من شرق المتوسط .. و(الموبايل) لا يرن ورسائل الجنوبلم تأت بعد وفي المدى تتسع شهية الحرب والخرائب والنيران والدمار...لكن ماذنبالبراءة ؟؟.
شتنبر2006
عبده حقــي
|