أعيرهم أجنحتي
على جسر يشبه جسد أول الحروف .. استطبت العبورمنذ أبد سحيق .. في الضفة الأخرى من ظل ضويء.. تلف بي أشهى الدياجي .. ويضمني دراع الشراع إليه. وكنت لاأرى في ظلي التميم غيرقفيريتقطرحبرا وكان الصمت من حولي يحبل بالساعة الخامسة والعشرين على معصم الشمس وبفصل خامس سفيف في سماواتي.. وبكل التوق استطبت أيضا رحيلي إلى قارة الثلج المشتعل حيث تتدثر عارضة البيان بسجف السماق الأثيل .. ألفيتها فجأة تراودني عن نفسي .. وصرخت من فوق أعلى برج (النور) : ( لترحلي بي أيتها الرياح أبعد من حدود الأبجديات الرخيمة والبياضات الآسرة...) ورأيت ذات مساء جنية بحرالحبرعلى الجسرالذي تحرسه شجرة المنديل رأيتها تغسل قدماها ثم تصاعد بي كأنما تعرج رافلة في فستانها الدمقسي الأرستقراطي الفاتن ... جنيتي تلك وشحتني بالوردة التي نامت على صدري .. وردتي كنت أسقيها بكثير من دنان الحكايات الشيقة وأطعمها من أعشاب (زلاغ ) النافذ بكبرياء في كبد السحاب... كبرت يداي واتسعت حدقتاي وكان الجسر من تحتي مزهوا بإيقاعات شبابتي سافرت وحدي متأبطا أبجدية تنفث أنفاسا حارة مثل فرس نافرة في فجرشتوي . أبجدية تتدثر بلبوس الإغتراب الجميل والتبتل الأسمى وشهوة المنافي الملغزة... ذات صيف ستيني بعيد، صحوت على قمر يرسل سمفونيته الكفيفة في شوارع داليتنا الحبيبة .. دسست جيوبي بقبضات نوره الفضي المنعش ورحلت بأنواره إلى أغواردياجي الحكاية الممتدة بيني وبين التشكلات الغريبة الألفليلية .. وكانت غيمة عبيرتقف هناك دائما بين انفلات النفس وقيامة الإفضاء...جلست على حافة داليتنا الحبيبة التي تشمخ بقامتها على صدر الفناء ذي الزليجات القديمة، ثم مددت يدي بين الأغصان والأوراق التي وخطها شيب الحكمة علني أقبض على قمرالدارالهارب على صهوة السمفونية الكفيفة...كبرت يداي واتسعت حدقتاي وامتلأت خزائني بلفائف الدمقس وكان الرفاق في المكامن الجذلى الممهورة بدخان السهرات والكؤوس المهشمة على منضدات المواويل يمدون لي نارا من قداحات الغياب أما أنا فقد كنت أرصع هاماتهم بنجمات لاتخبو، وفي صالونات سطوري كانوا يكرعون سلافة الود وعلى جسري المخملي كانوا يعبرون إلى أعلى سلالم المرايا كي يعزفوا أغنياتهم... كانت يدي التي لاتسمعني وتسبقني إلى كراسة الليل ، أبدا مبسوطة كالبراري البدائية تخط على اللوح قصصا تتطايرمن جسد غريب ينفلت من جسدي باتجاه علب البريد ودهاليزالأضاميم البكر وقيعان الدويات ...طرقت كل زوابع الإحتمال ونحرت ريشتي القصبية على مذبح البيان الركين أطرزالأوقات بيواقيت أعماقي الكريستالية ، وأعير أجنحتي إلى من مستهم أرواح المزارات المسكونة بالإشارات الفضية ... ولكم أبحرت وحيدا في مفازات البردى تمزق الأنواء أشرعتي ولكم بشراييني رتقتها ولملمت جثثي في كفن الخسارات وأطلقت في أودية البوح صيحات الكلم الجميل وزرعت على شغاف الأفئدة قصب النايات فلم تشدوفي اللحظة الحاسمة سوى رياح الخريف العقيمة ... يوم طارت أولى عصفورات الدهشة من نافذة الصدر، بت مسهدا .. تراءى لي طيف بقامة بيضاء تنتصب أمامي وتشهر في وجهي نصلا يقطرحبرا . قالت : (أخرح عليهم وهات ما انكمن في صدرك من بوح تميم...قدرك أن تكون كما يشتهيك جسدي الأبيض لاكما يشتهيك التيار...) عند الفجر طارت سيدة البياضات وحطت على غيمة تتفصد بأسمائي شعرت بزهومتفرد وقلائد تتغامزعلى كتفاي وعيون الكون تغمرنني ببريق الآفاق.
أسررت لها : (اسألي زفراتي ، أنفاسي التي وزعتها في خيمة السهاد، هناك لما تزل في رحم الوقت ووصيتي الأخيرة لم أحبرها بعد ...)كيف إذن مرعليها حين من الدهرعصفت فيه بدفئ الوكونات الرؤومة وشققت باستعارات ربابتها نهر( ويسلان ) العدني لتعبرفي غفلة مني إلى الضفة الأخرى من كلام لايشبه شفاهي... لم تبك سيدتي البتة ذكرى أوراق خانتها الكؤوس والسجائرفي حانة الغياب. ها يداي تحصي في مفاوز المطلق توابيت لكؤوس الملامة ، ومن كوة المساء ترقب باقات بوحها وجلة راجفة على صهوات الهاربين بها إلى مزاد علني .ومازالت على العهد الوثيق ممدودة ، سافكة حبرها على عتبات أبهى المدن العتيقة وتنحني عند كل فجرجديد إجلالا لقمرالأعالي الذي يختزل كل التوحد القزحي الساحرالذي تنكمن في ثنياته ذخائرساطعة كالحبر.. زئبقية كالشعر.. منسابة كالنثر.. مشعة كالبدر..غامضة كدهشة القدر...في نفسي حزن على أياد تزرع أرصفة المدينة بجماجم الغائبين في الطواحين التحتية... أياد تزررقمصان أعراسها بدبابيس الأسرار والنميمة وتهرول بهبائها المنثورإلى أقبية الماكينات التي تقتات على هشيم الليل المسروق من براءة النهار
لم تسقط أجنحتي من سماء ما.. من سماء لوجهها ألف قناع وقناع ... بل من سنديانة تشربت ينابيع الأعماق وتعازيم الصمغ العتيق وتراتيل القمرالحكيم المتربع على أريكة الشجرة المهيبة... ينبجس البيان بين تفاريج يداي كالماء يتوق لأقداحه.. فأعانقه مثلما يعانق عباد الشمس النور ويدور.. يدور.. وأدورمعه باحثا منذ الخطوالأول عن قصة فاتنة..
صاخبة في همس .. هامسة في صخب رابضة على تلة القلب تسطروشمها الباذخ حقلا منثورا لم ولن تمسسه ضعة النسيان ... القصة الفاتنة التي تسكنني لما تزل بانتظار(الحاركين ) إلى زمن الوصل ؛ الحالمين بعمرالوشم ، بنورالنجم الساهرعلى باب الحرف ، المنذورين لطعنة القلم بعيدا في حدود الشريان... العطشى لما تبقى في قرارة الصدر من دلاء البيان...
جريدة صدى فاس
|