ماماغـولا
زعموا .. وسمعنا كثيرا عن ماماغولا .. وأخيرا كذبت الحكايات وها ماماغولاعلى مشارف مدينتنا العتيقة .. قادمة تنوء ببطنها المندلق بثقل الأشلاء .. زاحفة بتوأدة إلى ساحة حارتنا كي تقتات حين تجوع من جثث الصبايا الراتعين في راس الدرب .. وهوراس في لغتنا العامية لأنه كان مركزتدبيرطيشنا .. كان عقلنا المدبر الذي يغيرويتراجع .. يكرويفر.. يركب ويفكك .. يحيي ويميت الإشاعات . هنا في (راس) الدرب كان الأطفال يلفقون أخبارهم الفنتاستيكية عن ماماغولا... يلغمونها بأحابيل أخيلة الشياطين التي لاتنذعن لسلطة العقل أو وجاهة الصدق
وزعموا أيضا أنها باتت مرابطة في الصابة المعتمة .. وأنها لاتجوع مثلما نجوع نحن أبناء آدم .. إنها دائما جائعة ولذلك فهي تلتهم كل ما يصادفها في الطريق ، كما أنها لاتكترث بما تلتهمه أكان فريسة آدمية أم حيوانا قصيا أم شجرة في خلاء .. هي (بيلدوزير) خرافي
وكفى ...
وانزويت تلك الليلة وحدي بعيدا ، وحدي أفكرفي مشهد حتفي القريب .. في الركن القصي هناك باتت تتزاحم في مخيلتي صورالضحايا ، ورأيت جثتي ملقاة بينهم ... كنت أتصور.. أتوقع أبشع حالات حتفي .. رأسي بين آلة فكيها المشرعتين .. رأسي ، عقلي المدبرلامحالة سيكون إحدى تفاحاتها اليانعة .. وبعد برهة سوف أحس برأسي قد ذابت مثل قطعة (كوجاك) في مغارة فمها الواسع فيما ستبقى قدماي تركلان في الهواء ثم ستشلان بعد حين .. وهاقد إنتهت ماماغولا مني أوبالأحرى إنتهت من وجبة آدمية أخرى ... إلتهمتني بالتمام والكمال إلى آخرمضغة في جسدي الصغير... وهاهي الآن أناخت بكلكلها لتلعق بقع دمي على الأرض ، ولاشك أنها تفعل الآن بي مافعله أسلافها ديناصورات ماقبل التاريخ بأسلافي البدائيين الغابرين في تخوم الجينالوجيا الإنسانية ...
وماهي إلادقائق مكثت خلالها كما قلت منزويا .. واجما وساهما في أبشع صورإلتهامي حتى إنفجرت نوبة صراخ هيستيري عارم بفناء الدار.. وألفيت جسدي فجأة يركض مع الراكضين وألفينا أنفسنا جميعا من دون إتفاق نعدوفي إتجاه واحد لم يكن سوى مخبئنا عادة في لعبة الغميضة من تحت السرير... ومع قفزتي الأولى في هذا الهرب الجماعي إلتفت ورائي فرأيت :
ــ ماذا رأيت ؟
ـ رأيت نهايتنا الكانبالية .. نهايتنا جميعا متوثبة كالموت الرابضة على العتبة ، تتكؤعلى منشارها الطويل .. بقامتها المتكورة الملفوفة في لحاف الرعب الرمادي المخروم ولسانها الأحمرالقاني يتدلى على صدرها مثل طحال طويل .. وقلت في نفسي (هاقد حلت ساعة الحقيقة ) وبدأ صراخنا وإستغاتاتنا تملؤالدارجلبة وأيقنت أنه قد وصل إلى أقصى الجيران في راس الدرب .. وكنت وكان الآخرون يترقبون لامحالة أدرعها المزغبة المتوحشة أن تتسلل من تحت السريرلتسحب أولى ضحاياها بيننا .. أن تسحبها من قدميها ثم تنهال عليها بالنهش والهرش والإفتراس والتمزيق .. تتلذذ بجسدها على مهل ثم تعود بعدها إلى سحب ضحيتها الثانية وهكذا أيقنت أن الدورلامحالة سيأتي علي هذه المرة إذا كان حظي قد رحمني في المجزرة الأولى .. فما الذي سيمنع ماماغولا من أن تنتقيني وتجرجرني من قدمي إلى مائدتها ...
وطفقنا نترقب .. نترقب أن يحدث شيء ما من تحت السرير.. كأن تتسلل فجأة دراعها الأفعوانية .. أويصيت شخيرها المتوحش .. أويلفحنا لهيبها التنيني ... لكن لاشيء من كل هذا وغيره حدث .. وبقينا نترقب والمجزرة لم تقع أوربما تأجلت بضربة حظ إلى حين .. ومرت دقائق أوفى وأكثرمما كنا نتوقع .. دقائق منحتنا الثقة بأن طاحونة القدرقد غيرت عنا وجهتها خارج الدارإلى ضحايا أبأس وأسوء حظا منا في الحارة .. هذا ما أحسست به وما أحس به الآخرون من دون شك .. وفي لحظة ما إعتراني مايشبه الإطمئنان وأوشكت أن أعتق أنفاسي المكتومة لتنفرج من جديد وتدفع بكلماتي الأولى إلى الحلقوم ( الحمد لله .. الحمد لله .. المجزرة لم تقع ) لكن ما إن شرعت غبطة النجاة تختلج في أعماقي حتى سمعنا صرخة والدي في فناء الداروبخطى هرولته المقدامة ، المندفعة ثم بارتطام بابنا المتداعي بالحائط وكان هذا الإرتطام وبذلك الصريرالمتمزق المألوف يعني في عاداتنا اليومية أن أحدا ما قد خرج .. قلت في نفسي (لاشك أن أحدا ما قد خرج) .. وحدست أن الهدنة التي أعقبت صريرالباب تعني أن الخطرقد ولى وأن المجزرة لم تحدث كما زعم الأطفال في (راس الدرب )..وطفقنا نخرج من خندقنا الواحد تلوالآخر.. وعاد كل منا إلى حيث ألف أن يعود أو يقعد .. وفجأة سمعنا مرة أخرى صريرالباب وكان هذا الصريرالثاني في عملة الباب إيذانا بأن الباب قد إنغلق وفجأة إنغلق وبدا والدي يأتي عائدا بابتسامة ممهورة بلهاث وحنق وهويجرجر خلفه شغالة جيراننا (دادا) من أسمالها الرثة مثل أسيرة ثم إنفجرضاحكا وقال ...
ـــ هاهي ماماغولا اللعينة !!
وفي تلك اللحظة لم ندركيف إتفقنا من حيث لاندري على هيستيريا ضحك وقهقهات وحمدنا الله على أن المجزرة لم تحدث وأن ماماغولا اللعينة ليست إلا إبن آدم مثلنا