شارب الإنبست
شارب الإنبست للرسام بيكاسو
لم يبق في الحانة غير بقايا … بقايا الأشياء وبقايا يوم يراجع مفكرته على ايقاع بندول مخمور وعقربان متعانقان على سرير الثانية عشرة ليلا .
النادلة “ايف ” وحدها خلف الكونتوار منتصبة مثل شجرة سنديان مثقلة بندف الثلج والقطة “مينو” كعادتها تنط الى ركبة سيدتها ثم الى قارعة الكنتوار لتشمم صحينات التراويق او لتمشش فقريات السمك المقلي.
قال في نفسه ( متى سأنعم بالتحليق مثل الاخرين .. جون و روبير و باسكال وحتى ايف هذه النادلة توأم “مينو” عندما تفرط في التدخين و الشرب و الكلام العابر حول الانتخابات وقضايا الهجرة والضرائب المرتفعة و…و…
تفقد جيوبه ، لم يعثرسوى على فتات التبغ وأعواد الكبريث الفاسدة التي يحتفظ بها كي ينظف أسنانه، طبعا عندما يكون لديه وقت لذلك .
دس القفاز الصوفي في جيبه ، فيما نسي الجيب الآخر متدليا الى الخارج كالجوارب، ناولته ايف بيرة اخيرة .. أحس بأكلان رغوتها وعذوبة اندلاقاها .. ايف تتنصت لغرغرتها في بلعومه وتختلس نظرات الى اساريره والمسحة القرمزية حول بؤبؤيه ، قالت (اشرب .. اشرب ما استطعت فما اقسى شتاء هذا العام ).
وأجابها كان كلماته تسيل على ذقنه لزجة كالقطران (و سيكون شتاء طويلا .. طويلا ، فماذا اعددنا لذلك يا ترى؟ حطب ، مكيفات هواء ، شامباني ، مواقد كل هذا لا يكفي إذا ما ضيعنا ما تبقى في أيدينا من دفئ إنساني ، قال هذا وعيناه مشغولتان بالنظر إلى لوحة ” شارب الابنست ” ليبكاسو .
لم يبق من الاضواء سوى أباجور خافت أحمر قان متدلي فوق رأس ايف .. كور يديه .. نفخ في تجويفاتهما ثم قذف بجسده على حين غرة إلى الشارع كان شخصا ما دفعه بقوة من الخلف و في حقيقة الامر لم يكن راغبا في الانصراف، بل ما حدث له وقتئذ نظير شعورنا حينما ننهض دون أن نحدد ما سنفعله فيما بعد …
تحت قدميه ، تتوارى مربعات مطلية بالابيض والاحمر خطواته تقع على المربعات البيضاء تلقائيا .. صدر منه زفير ثم أعقبه صفير توهمه ابيض هو أيضا و عائما في خواء الشارع .. وها هو يتحول بدوره كائنا تلقائيا مجرورا إلى منتهى شارع “سان كاترين ” حيث حديقة الطيور “أيكزوتيك” المتلقعة في صمتها المسائي البارد و حيث تركن خلفها قرب المرحاض العمومي غرفته وهي من صنف استوديو كما يشاع عند المغاربة و الملونين و المنبوذين ، مزينة جدرانها بأبخس لفائف أوراق الديكور ..
مصباح واحد .. فنجان واحد .. كرسي واحد .. سرير لشخص واحد ، صورته الوحيدة حين كان طفلا طليقا هناك في شساعة سايس.
في الغرفة إذن رجل واحد .
اصاب شفتيه تشنج مثلج .. تفقدهما بأرنبة لسانه فلم يحس بشئ كان لسانه دار دورة في فراغ .. دورة قد تشبه صفرا مترهلا أو بيضة فاسدة .. حاول تمطيطها أو على الاصح تشغيلهما قائلا شيئا من هذا القبيل “ أشرب إذن أنا موجود” فتطاير إثرئذ بعض رذاذ اللعاب على وجهه فتذكر و هو يخطو باتجاه نافذة الاستوديو كلام العربيد باسكال (السكر يبدأ من الشفتين ) و لكي يتأكد من ذلك تحسسهما ثانية فتهيأ له انه عض على أصبع نقانق نيء وقال في نفسه ( سكرت إذن .. وصدقت يا باسكال ) .
قام يذرع الاستوديو … يداه متشابكتان خلف ظهره … بدا ظله على الجدار المزين بطيور اللقالق مثل كاريكاتور طائر سوي على عجل على إحدى صفحات جريدةl Le canard en chainé أحس بعطش حار ، ذات العطش الذي يتبع عادة إفراطه في السكر .. فتح الصنبورالفضي، فصدر منه عواء مبحوح (عوو.. عوو) .. فأيقن ان الوقت قد جاوز الثانية عشرة ليلا و في مثل هذا الوقت .. في وقت مقيت كهذا يكون حارس خزان الماء الرئيسي في الحي الاداري قد أقفله تماما و نام غارقا في غطيطه .
فجأة سمع طرقا خفيضا .. لم يستطع تحديد ما إذا كان على باب الاستوديو أم على باب جاره الجمركي الذي يفصل بينهما حائط من البناء المسلح . و حدس أخيرا أن شخصا ما قد قصده بالفعل و غمغم في نفسه ( من يكون هذا الوغد فالواحد منهم لا يقوى على تحمل نفسه حتى ، فكيف له أن يتحمل رائحتي وسحنتي ، ثم ماذا سيربح من مهاجر بئيس مثلي يراه مندسا في أشيائه الصغيرة والكبيرة ، في مصعده ، في متجره ، في مصنعه ، في قطاره ، في تلفزته وجرائده وعموما في خبزه و ثقافته .. فأنا أعرفهم جيدا .. جيدا، يقولون لك Salu باقتضاب مقتر كأنهم يدفعونها نقدا و أنت لاشك تتوقع هذا قبل أن ترتطم بأحدهم في الاسانسير .. وعلى كل حال لن أفتح قبل معرفة الطارق .
اصاخ السمع لوقت قصير، و المؤكد أنه لم يدر فيما إذا كان طويلا أم قصيرا غير أن الطرق عاد للمرة التانية وفطن إلى أنه زاد عن الطرق الأول بواحدة كانت ملحاحة مضغوطة ، كأنها لرجل مطارد في وقت متأخر .
دس المفتاح في جيب المعطف الذي بقي متدليا كالجورب قبل حين (هل تتذكر أيها السيد ، حسنا ، ما أعظم الوفاء .. الانصات الجيد وفاء ) قلت دس المفتاح و دفن سيجارته بين لحمة الاذن و الصدغ المشيب … كان لايقوى على المشي قيد أنملة كأن قدميه مكبلتين الى الخلف بأصداف مطاطية … كانت المسافة بين المنضذة والباب لا تتعدى بضعة أمتار ومع ذلك فقد كلفته وقتا أكثر من اللازم أو هكذا تهيأ له على الارجح .. في الخطوة الاخيرة و بينما هو يهم بفض عضو المزلاج دوت ضربة أخرى .
كانت هذه المرة بقضبة يد مكورة من دون شك… ازاح غطاء عدسة الباب وطفق يراقب بعينه اليمنى .. معطف من الفرو الرفيع الأبيض الناعم ذكره بالقطة “مينو” .. يد بضة بيضاء تتلاعب أناملها باهداب شال اسود .
لم يصدق ما راه فهو لم يعقد موعدا مع بائعة الهوى ولا مع فتاة رصيف ولم يهاتف مديرة مأوى الذعارة المنظمة منذ حادث الميترو حين اكتشف بالصدفة أن السيدة التي كانت ترافقه ليلا في مقصورة الطيجيفيTGV هي رجلا من الشواذ جنسيا حتى بات يشك في حقيقة كل الأشخاص الذين يصادفهم ولكل هذا وذاك فهو قد قرر أخيرا أن يعدل عن فتح باب الاستوديو ثم إنه غير مستعد مهما يكن من أمر أن يفسد على نفسه متعة وحدته بكلام مسلسلات وسجالات TF1 فهو يعرف بالتجربة أنها لن تفضي الى مخرج ..
بعد صمت طويل ، صمت منحه القدرة على ادراك ما يحيط به وما لا يحيط بدا كأنه يتأهب لوقوع شيء ما ..شيء يمكن ان يقوض في اية لحظة هذا الصمت ، كأن تعصف الريح فجأة برتاج النافذة أو باطار صورته الوحيدة فتنفلت من مشجبها ثم تقع على الارض وقد يوقظ هذا العجوز المتقاعد ويكلف نفسه عناء النزول اليه ليستفسره في أمر ما يحدث وعلى كل حال فقد صار يتمنى في صمته الا يقع شيء من هذا أو ذاك ولذا فقد حاول تفادي ما يمكن أن يحدث ودنا من النافذة فلمح حارس العمارة و سيجارته في فمه متوهجة مثل عين مارد حمراء .
دلف الى المطبخ ليعد فنجان قهوة مركزة بالحامض. ثم سحب ورقة بيضاء ، و خط عليها كلمات اولى لقصة محتملة (لم يبق في ألحانه غير بقايا .. بقايا الكائنات .. بقايا الاشياء ، وبقايا يوم يراجع مفكرته على ايقاع بندول مخمور وعقربان متعانقان على سرير الثانية عشر ليلا …) .
كان في كل مرة يطالعها يكتشف سخافة ما تحمله بين السطور … وبدون تردد اضرم فيها النار والقى بها من النافذة و تابع تأرجحها في الهواء مثل قذيفة حتى وقعت بين قدمي حارس العمارة الذي كان منشغلا بمسح نظارته .
فجأة سمع فيضان ابريق القهوة .. أوه لقد نسي قهوته كالعادة أوبالاحرى كان مرغما هذه الليلة على نسيانها .
في الصباح صحا على ايقاع ارتطام قطرات الصنبور بسطت المغسلة. انه يسمعها من تحت الملاءة طن .. طن .. طن .. لقد دشن يومه اذن بهذا الايقاع المائي الرتيب ، المقرف و بذلك الشعور الذي ينتاب المرء صباح الاثنين و هو يتأهب لركوب ناقلة المصنع .
شعر بغثيان و تذكر الشاعر ريتسوس ( هذا الغثيان / ليس مرضا / انه جواب ) هرع واطرق برأسه من تحت الصنبور وقتا كافيا كي يسترد انفراجه الجوفي، سمك مقلي .. رغوة البيرة و صوت جاره الجمركي يردد مع شارل أزنافور اغنية خفيفة . فجأة عطب صوته وتحول الى سعال ديكي شبيه بعواء الصنبور (عوو .. عوو .. عوو) ثم اندفع السائل الى البالوعة محملا بمالستيك بالشامبنيون و تشكيله من السلاطة و كانت رائحة الحموضة الخبيثة التي تسربت عبر الثفوب والشقوق ايذانا بيوم غير عادي .
|