وسائل الإعلام وتأثيرها على القيم الإجتماعية
إعداد: عبده حقي
أثارقرارالحكومة الفرنسية الأخيرالقاضي بحذف الوصلات الإشهارية والإعلانات بعد الثامنة مساءا في بعض القنوات التلفزية بالإضافة إلى الوضعية الصعبة والقلقة التي تعيشها المحطات الإذاعية كل هذا قد أثارالكثيرمن الأسئلة الملحة حول تأثيره كل على قطاع الإعلام العمومي . فبصرف النظر عن البرامج الترفيهية والثقافية كان ولازال يطرح دائما السؤال الأساسي : كيف يمكن للإذاعة والتلفزة أن تؤثرفي القيم الأخلاقية والسلوكات الفردية .
في الحقيقة بالرغم من ملايين اليورو التي يتم صرفها كل سنة لإنتاج البرامج والإعلانات التربوية ( الحملات الدعائية ، مسلسلات تربوية ، برامج للإطفال … ) بالرغم من كل هذه الميزانيات الضخمة ، فليس هناك إلى حدود اليوم جواب دقيق وشافي عن سؤال تأثيروسائل الإعلام في القيم الأخلاقية والإجتماعية .
لقد تم إختباردورالإذاعة والتلفزة العموميتين من خلال إستمزاج آراء بعض الفئات الإجتماعية من المستهلكين لكن لم تكن هذه التجربة مجرد عملية استمزاج قد تمت في ظروف مختبرية ضيقة ومحدودة ليس إلا.
هناك دراستان تم إنجازهما في هذا السياق بقصد تدارك هذه الثغرة والإجابة عن السؤال المحوري السابق . الدراسة الأولى تتعلق بتأثيرالمساسلات التلفزية على نسبة الولادة في البرازيل وتعتبر هذه المسلسلات عنصرا أساسيا في خارطة المشهد الإعلامي السمعي البصري هناك وقد إستطاعت إستقطاب أكبر عدد من المشاهدين خصوصا في ذروة المشاهدة أي حوالي الثامنة مساءا حيث وصلت إلى مابين 60 و80 مليون مشاهد من مختلف الطبقات الإجتماعية . وتعتبرقناة ( ريد كلوبو) المتخصصة في إنتاج وبث المسلسلات القناة الرابعة على المستوى العالمي بدرجة تتبع ومشاهدة تضاهي أشهر القنوات الأمريكية . وتغطي قناة ( ريد كلوبو) مساحة جغرافية تقدرب 98 بالمئة من مجموع المحافظات البرازيلية . لقد أرغمت الرقابة على عهد الديكتاتورية الكثير من المؤلفين الانكباب على الإنتاج والتأليف لصالح التلفزة العمومية ويمكن إعتبار إنتاجات هذه المرحلة من أرقى وأجود الإنتاجات في مسيرة الإعلام العمومي البرازيلي .
لقد حاولت هذه المسلسلات البرازيلية تشخيص أوضاع العائلات والأسرالمنتمية إلى الأوساط الميسورة إن لم نقل البرجوازية التي يعيش في كنفها عدد أبناء أقل . إن 72 بالمئة من أبطال هذه المسلسلات هم في سن أقل من 50 سنة في أحداث المسلسلات التي تقدمها قناة ( ريد كلوبو) . فما بين 1965 و1999 لم يكن لهؤلاء الأبطال أبناء وحتى إن وجدوا فإن سنهم لم يكن يتجاوز العام الواحد .
وفي نفس المرحلة فإن نسبة الإخصاب والحمل في البرازيل قد إنتقلت من 6،3 حالة ولادة للزوجة الواحدة سنة 1960 إلى 2،3 وقد أعتبرت أولى النسب إنخفاضا في العالم .
فإلى أي حد قد أسهم نموذج هذه الأسرالصغيرة التي تقدمها المسلسلات في غنخفاض معدل ووتيرة الولادات بالبرازيل ؟
للإجابة عن هذا السؤال قامت الصحفية ( لاليانا لافيرارا ) وزميلاتها في قناة (ريد كلوبو ) ببحث شمل بالأساس موضوع تغطية القناة للتراب البرازيلي ما بين 1970 و 1999 ، فمساحة البث في هذه المرحلة قد إتسعت بقدرما إرتفع عدد رخص الإستغلال أولا تحت الحكم العسكري الديكتاتوري ثم بعد ذلك في ظل البرازيل الديموقراطية … لقد كانت قناة (ريد كلوبو) غائبة سنة 1970 تقريبا ولم تكن تغطي سوى ثلث التراب البرازيلي . أما اليوم فإن التغطية شاملة ، كما بينت الدراسة أن نسبة الولادة تنخفض كلما شرعت قناة (ريد كلوبو) في بث برامجها بمنطقة ما .
إن التأثيرالإعلامي هنا واضح وجلي وهوأنجع من نتائج حملة تحسيسية وتربوية وهوواضح أيضا في ظل غياب قنوات تلفزية أخرى بمعنى أن تأثير مسلسلات قناة ( ريد كلوبو) كان له الأثر الواضح أكثرمن إعتبارها برامج ترفيهية وفرجوية ليس إلا.
الدراسة الثانية حاولت مقاربة تأثير المسلسلات الإذاعية التي أنتجت خصيصا بهدف خلق مصالحة وطنية إبان الحرب الأهلية التي عرفتها رواندا خلال التسعينات من القرن الماضي . ونشيرهنا وبكل أسف إلى أنه كان لجهاز الراديو الأثر البين في تفجير الحقد والكراهية العرقية بين القبائل المتطاحنة وما عرفته من مذابح لم تشهد أي دولة إفريقية مثلها فيما قبل . ومن أجل تدارك هذا الخطأ الإعلامي التاريخي وتفعيل دورالإذاعة في المصالحة الوطنية إقترحت إحدى منظمات المجتمع المدني في رواندا مسلسلا إذاعيا يبث مرة واحدة في الأسبوع يتناول موضوع صراع بين قبيلتين إستطاعتا بعد الإقتتال أن تجدا طريقهما إلى المصالحة … وقد كان هذا المسلسل يبث في إثنتا عشرمحافظة وعلى موجة FM .
وخلال عام وبمعدل مرة واحدة كل أسبوع كان سكان القرى يجتمعون حول جهاز الراديو لينصتوا إلى أحداث هذا المسلسل / البرنامج الذي كان آنذاك من بين ست برامج تحسيسية يبث منها برنامج خاص حول داء فقدان المناعة المكتسبة ( الإيدز) . وعند نهاية المسلسل كان يقوم بعض المسؤولين بمنظمات المجتمع المدني بالتقصي والتحري عن جدوى الإستماع في أوساط هذه القبائل المتناحرة وتطرح عليهم أسئلة إستمزاجية حول تصورهم ومواقفهم وآرائهم في فكرة ( العنف الجماعي الذي يتولد من سلوكات فردية طائشة ) كما يتم إستمزاج آرائهم أيضا حول أبعاد بعض الأعراف والتقاليد الإجتماعية مثلا كالإجابة عن سؤال ( هل تحفز إبنك على الزواج من قبيلة أخرى ؟ )
يقينا أن الكثير من المعتقدات الإفريقية لم تتأثر بهذه المسلسلات غير ان الأمر ليس كذلك بالنسبة للأعراف الإجتماعية حيث أن جل الذين تابعوا هذه المسلسلات قد أبانوا عن نزوع نحو قيم التسامح وما من شك في أن هذه النتائج قد طمأنت الباحثين والتحول الذي طرأ على سلوكات الناس قد كشف بالواضح عن تأثير وسائل الإعلام في بنية وحركية المجتمعات المستهدفة بشكل عام .
عن ليبراسيون الفرنسية
|