أزمة الصحافة المكتوبة
إعداد : عبده حقي
على إثرإعلان المكتب التنفيذي لمجموعة (لوموند) عن خطة تتغيى إلغاء 130 منصب شغل وتوقيف بعض الفروع ذات المردودية الهزيلة ، نظمت شغيلة لوموند إضرابا إنذاريا ثم إضرابا ثانيا يوم السابع عشرمن نفس الشهروقد كانت مساندة من طرف تكتل صحافة مدينة فلورانس ببلجيكا ومن طرف مؤسسة تيليراما وإضرابا أخيرا يوم الخامس في شهرماي من نفس السنة .
إن أزمة مجموعة صحيفة لوموند هي أزمة ذات خصوصية متفردة ونموذجية . ومن أجل فهم عمق هذه الأزمة يجب
علينا وضعها في سياقها التاريخي الخاص واستجلاء مميزاتها من خلال الخطابات ومن خلال دينامية القطاع الصحافي بشكل عام .
إعادة الهيكلة
إن ماشاهدناه من أزمات في قطاع صناعة الفولاذ مثلا سوف نشهده قريبا في قطاع الصحافة : هذا ما صرح به (ميشيل ديلبيج ) وهوصحافي ينتمي للكونفدرالية الفرنسية الديموقراطية للشغل على أمواج قناة فرنسا الدولية حيث وضع في هذا الحوارمنظورا وتصورا خاصين بمؤسسة لوموند . وهذه مقارنة تنذربوضعية المؤسسة المشرفة على الهاوية وتؤكد أيضا على التردي المطرد لشروط العمل غيرالملائمة بها . وإذا ما لاحظنا أوضاع الصحافة اليومية بشكل عام فإن المخطط الجديد لجريدة لوموند يأتي بعد إلغاء 76 منصب شغل من مجموع 276 بصحيفة ليبيراسيون في نونبر2006 وفي فبرايرمن سنة 2008 تقدمت صحيفة لوفيغارمن جانبها بمخطط يهدف إلى فتح باب المغادرة الطوعية لحوالي 60 إلى 80 مستأجر.
إذن فعلامات الإنهيارقد مست كل وسائل الإعلام وخصوصا الصحافة المكتوبة ، ففي يناير2008 تم إحصاء 37301 مستأجرفي قطاع الصحافة ، من بينهم ‰22 صحافي مستقل . وهذه نسبة دالة على تراجع القطاع هذا إذا أضفنا إلى هؤلاء الصحافيين فئة الصحافيين الذين مازالوا يبحثون عن التمتع ببطاقة الصحافة . والذين لم يتفقوا بعد مع إدارة مشغليهم عن تجديد عقودهم كمراسلين أومحرري أعمدة .
ولنطرح السؤال الآتي : أليس كل صحافي مسؤول بشكل من الأشكال عن توجه الخط التحريري لمنبره ؟ إننا نتفهم محاولات ضرورة تسريح بعض الصحافيين الذين رضخوا لأوامرمدرائهم بنفس السهولة والأسلوب الذي مس مأجورين آخرين في قطاعات أخرى . وكيف لانتساءل مرة أخرى عن معضلة التحريرونزوع الإستهتاربالكتابة الصحفية من أجل الدفاع على نفس المخططات والتي مست قطاعات أخرى كما تمت الإشارة إلى ذلك في منبر( باكشيش أنفو) من طرف أحد صحفيي جريدة لوموند ؟ ألا نعتبرهذا مثالا صارخا ؟ إنه (لويس سويتزر) رئيس مجلس المراقبة في صحيفة لوموند والرئيس المديرالعام الأسبق لشركة ( رونو ) وهومن تحمل مسؤولية إغلاق مصنع ( فيلفود ) الذي كان يضم 3100 مستأجر.
حتمية تكنولوجية
إن أول سبب حقيقي في رأي صحيفة لوموند بل والصحف الفرنسية الأخرى هوالإستدراج المغناطيسي القوي للقراء من طرف الشبكة العنكبوتية وآثاره الجلية على الإقتصاد والصحافة .
لقد أوضح ( برينوباتينو) الذي شغل منصب نائب رئيس مجموعة لوموند ومؤسسة تيليراما في كتاب مشترك مع ( جون فرانسوا فوجيل ) موسوم ب ( صحافة من دون كوتينبورغ ) قائلا : إن الإنترنت هوالوسيط الإعلامي القادم بقوة في المستقبل وهوالحاضرالآن بقوته الإفتراضية ، إن هيمنته ماضية بإصرار في التركيزشيئا فشيئا ، ففي سنة 1995 لم يكن هنالك سوى 23500 موقع إلكتروني .) ويقول (فرانسوا جيري) و(برناربولي) في مقال حديث بمجلة (ديبا ــ DEBAT ): في يوليوز 2007 لقد أحصت الشركة الأنجليزية ( نت كرافت ) 125 مليون موقع إلكتروني بالإضافة إلى تصاعد ظاهرة الصحافة المجانية والهاتف الجوال فإن الآثارالسلبية للنت قد أسهمت في تبخرعائدات الإعلانات إلى هذه المنابرالجديدة . فقد لوحظ في فرنسا إرتفاع هام لإعلانات النت حيث قفزت من ‰ 5.9 في سنة 2005 إلى ‰10 .8 سنة 2007 في الربع الأول من السنة . كما بلغت الإستثمارات في مجال النت مايناهز 34 ,5‰ سنة 2007 وعلى العكس من هذا فإن صفحات الإعلانات على الجرائد اليومية مايسمى إختصارا ب (PQN) قد إنخفضت ب 32 ,5‰ خلال العشرسنين الماضية .
إن إنخفاض عائدات الإعلانات والتصاعد القوي لإعلانات الصحف المجانية بنسبة 30‰ منذ ظهورها سنة 2007
بالإضافة إلى تقدم سن القراء الأوفياء حيث أن 42 ,5‰ من قراء الجرائد اليومية قد ناهزوا أكثر من خمسين سنة ، هذه هي العوامل الأساسية لأزمة إنهيارالصحافة المكتوبة .
إن مداخيل الصحف الأمريكية التي تراوحت بين 15‰ و25‰ لم تعد سوى ذكرى من الماضي كما أوضح ذلك كل من (جيري وبولي) وهنالك بعض الصحف التي اشرفت على المنطقة الحمراء منها صحيفة ( سان فرانسيسكو) التي راكمت
300 مليون دولارمن الخسائربين سنتي 2000 و2006 .
الهزات الإقتصادية بالإضافة إلى أزمة النشرقد أدتا لامحالة إلى ظهوروسائط إعلامية جديدة . ومع ذلك فإذا كانت التحولات الراهنة تؤكد بما لايقبل الجدل فيما يخص توقعات هجوم الإنترنت على الوسائط الأخرى فإن الخطوة الأولى قد تخطاها الإنترنت بكل تفوق إلا أن هناك عاملان يدعوان المتتبعين والمهتمين إلى الحذرالشديد :
العامل الأول تاريخي : فالعامل الذي يجعل من وسيلة إعلام ما مهيمنة على المشهد برمته لم يتم التحقق منه بعد . يقول (كريستوف شارل) في دعابة واضحة ( هكذا يمكن بكل يسرأن ننهار !! إن الجريدة التي كانت بسعرقرش واحد في بداية القرن ، قد قتلت صحافة الرأي التي ولدت مع الثورة الفرنسية كما أن الصورة قد إستطاعت أن تقضي على الصحافة
الخالية من الصورة قبلها والإذاعة والتلفزة بدورهما قد قضتا على صحافة الإثارة قبلهما عن طريق الصورة والصوت . لكن الشبكة العنكبوتية بحضورها الشاسع والقوي قد عمقت من أزمة الصحافة المكتوبة وأثرت بشكل كبيرعلى توازنها الإقتصادي .
أما العامل الثاني الذي يدفعنا إلى الحذرفهو العامل الإقتصادي ، لقد صارالإنترنت ومنذ ظهوره سنة 1990 وانفجاره الكبير بعد سنة 2000 وسيطا إعلاميا متداولا بشكل كبير، فرأسملة جوجل ناهزت 1 ,8 ملياردولاربينما بلغت شركة IBM1.3 ملياردولاروقد كان رأسمال هذه الشركة الأخيرة مضاعف مرتين قبل سنة 2007 . وحينما أشرنا إلى هذا البون بينهما فقد توخينا أن نذكربأن التطورالحاصل في وسائط الإتصال ليس إلانتيجة إختيارات تقوم أساسا على الإهتمام بسوق الإعلانات وعلى آفاق تطورها .
حتمية النشر:
بالإضافة إلى الحتمية التكنولوجية هنالك حتمية النشرالتي أسهمت هي أيضا في هذا الإنهيار. ففي المقال الذي أشرنا إليه سابقا فإن (فانسن جيري) و(برناربولي) يؤيدان طرح (ميكاييل وولف) رجل الإعلام الأمريكي الذي يقول : إن إستهلاك الأخبارعبروسائط الإتصال المعروفة قد أصبح عادة في طريقها إلى الإنقراض ، فلقد بدأنا نلاحظ حدوث جفاء بين جمهورالقراء وعالم الإعلام بالمعنى التقليدي .
منذ أن أسندت إليه مهمة تسييرصحيفة ليبيراسيون وضع ( لورون جوفران ) إستراتيجية سماها ب ( الضربة القوية )
يقول في هذا الصدد : إن إستراتيجيتي ومنذ 2007 تقوم على مواصلة الضربات القوية الواحدة تلوالأخرى من خلال العناوين الصادمة . علينا أن نكون هجوميين ومندفعين .
ولنعد إلى صحيفة لوموند التي إعتمدت هيكلة جديدة باعتبارها حالة نموذجية . ففي إطارمشروعه المسمى CSP إقترح
(إيريك فوتورينو) الإعتماد على شكل جديد منذ 2005 والذي يتجلى في خفض معدل الأخباروالإكثارمن التعأليق ووجهات النظروالتحاليل . وهكذا وفي إطارالهيكلة الجديدة تم إدراج مقالات لهيأة التحريرفي الصفحة الثانية وتحاليل صحفية في الصفحات الوسطى وأخيرا أعمدة ثابتة في الصفحة الأخيرة قد تكون إقتصادية أورياضية .
إن قراءة صحيفة لوموند اليوم يعني قراءة سلسلة من الدروس التي يكون الهدف من ورائها تلقين القراء كيف يفكرون في هذا الحدث أوذاك . إنها دروس يقترحها كتاب خارجون عن هيأة التحريروشهرتها قد تعمل على جذب القراء ليقتنوا الصحيفة .
إن حذف مجموعة من بعض المناصب مؤخرا قد جاء نتيجة لتطورحتمي في تقاليد القراءة التي إتخذت مناح وسبل قاسية نوعا ما على مستقبل الصحافة ، وهوالتطورالذي أدى إلى تقليص عدد الصفحات إلى مابين 30 و32 بعد أن بلغت في سنة 1984 إلى 44 صفحة . ويوضح (فوتورينو) هذا الأمرقائلا : إننا لم نعمل على تكييف مؤسستنا مع واقع المرحلة ،وهذا ماأنا بصدد القيام به اليوم .
هل من منقذ إذن للصحافة المكتوبة ؟ الأخباروالمعلومات متوفرة في كل مكان ... والمعلومات في معناها الواسع لم تعد تهم كما هي كمعلومات بل أصبحت الأهمية القصوى للتحاليل والتقاريرالحية ووجهات النظر... وعندما قامت إدارة صحيفة لوموند بالتفكيرفي مشروع جديد للنشريستهدف فئة محصورة من القراء الميسورين ، النخبويين فإنها بشكل ما قد أعلنت عن أفولها .
في مقال صدرفي 19 أبريل من سنة 2008 وصف (فوتورينو) تصوره للعمل الصحفي بجريدة لوموند قائلا: يتعلق الأمربصحيفة هامة وسريعة الرواج والنفاذ ، جريدة نخبوية ووازنة توثرالتعليقات والتحاليل وتنوع وجهات النظرعلى إنتاج نفس الأخبارالتي تقدمها العديد من وسائط الإتصال الأخرى وبسرعة رقمية خارقة .
وبالرغم من هذا فإن جل المسؤولين على أهم الجرائد ومنها جريدة لوموند على الخصوص لم يتساءلوا قط عن مساهمة الصحافة نفسها في عملية تطهيرنفسها ، فليس هناك سوى ركام من مقالات التوصيف والموعظات ، وهذا التوجه يوضح بشكل من الأشكال أثرتقاعس العديد من القراء وعدم إهتمام الشباب بالخصوص الذين لم يعودا يعبؤون بصحافة (الثرثرة) هاته.
بينما يبقى البديل المهم للإجابة عن هذه الأزمة يتوجب بالتحديد دعم والبحث عن العمل والتفكيرفي هذا الإتجاه .
حتمية تجارية
يعود ( فوتورينو) مرة أخرى في نفس المقال الذي أشرنا إليه سابقا والذي نشرفي 19 أبريل 2008 ويقول : إن الصحيفة أية صحيفة جديرة بهذا الإسم تتأسس من كونها قبل كل شيء مؤسسة تقتني ، تصنع ، تبيع وبالتالي فهي تحتاج إلى أرباح مثلها مثل أية مقاولة أخرى .
التراجع عن الإختيارات السابقة
ليس هناك على مايبدومن حل أوبديل ، يجب الخضوع لقانون المنافسة بل إعتماده كاستراتيجية مغايرة . لقد بلغت خسائرمجموعة لوموند 146مليون يورو. كما إرتفعت قروضها سنة 2007 إلى نحو150 مليون يورو. إن هذا النزيف المالي هوالنتيجة المباشرة لاختيارإستراتيجي ، إن إنشاء مجموعة بحجم واستراتيجية جديدتين سيمكنها من الإستقلالية كما قال ( مانك ) كل هذا من أجل حمايتها ووقايتها من شهية الآلة الصناعية والمالية الشرهة التي كانت الأبواب مشرعة لها بشكل أوسع .
ليست هناك بدائل سوى التشبث بالإختيارات الضرورية والتي لامحيد عنها مثلما حدث في صحيفة ( ليبيراسيون ) .
إن مؤسسة لوموند هي اليوم بمثابة دارآيلة للسقوط يجب إنقاذها بأي ثمن ، يقول (فوتورينو) في حوارمع ( إيكو) في 7
ماي 2008 . ففي المدى القصيرسواء في جريدة لوموند أوغيرها فإن الأوضاع العويصة التي يعيشها المأجورون أكثرمن أي وقت مضى ستدفع بهم إلى التعبئة مؤسسة بعد أخرى ولن تنجح هذه التعبئة بكل وسائلها من دون تعبئة ومؤازرة القراء .
|