التغليط الإعلامــي
تقنياته ـ أهدافه ـ خسائره
كتبها : فرانسوا بيلمار
ترجمة: عبده حقي
لايمكن إختزال إشكالية التغليط الإعلامي في مجرد صراع مفتعل وزائل يعتمل في قيمة معلومة أوخبر فيما إذا كان خبرا حقيقيا أم خبرا خاطئا أوملفقا ... وليس للتغليط الإعلامي موضوعا فقط وإنما له أسلوبه ومحتواه الذي يتأسس على أفق مستهدف .. له أيضا توجهاته الدعائية وعوامله التي تساعده على التعدد وباختصارشديد فهو ينتقل من خلال وسائطه المتعددة الخاصة به . إنه يتلون بتلون الزمان والمكان والأهداف فليس هو نفس التغليط في عصر كوتنبرغ كما في عصرالسي إن إن CNN أو قناة الجزيرة أوالشبكة العنكبوتية . كما أنه قد لايلجأ إلى نفس الطريقة في إنتقاد سياسات الحكام بواسطة تزييف روبورتاجات أوفيديوهات اوعن طريق مهاجمة منتديات النقاش الشبكية.
للتغليط الإعلامي آليات تقنية تتحدد في مايلي :
1 ــ فيماهوخطابي وملتبس : كالحديث عن الصراع العربي الصهيوني أوالحديث عن طبقة البروليتاريا على عهد الديكتاتوريات الشيوعية البائدة حيث كان المعنى المغلط يمرربشكل سيء في جهازالتلفاز.. اومن خلال نظرة حزينة لطفل لاجئ في معسكرما وردت إلى جمهورالمشاهدين عبرمراسلة صحفية خاصة، وكل هذه الصورتختلف تماما في بنيتها ونجاعتها مقارنة مثلا مع تقريرلخلل تقني في محرك طائرة فهوأمر يمكن التأكد منه والإحاطة العلمية والتقنية به .
2 ــ طريقة الإثبات : في عصرالتلفزة ما لايشاهد من خلال الصورلاوجود له في إعتقادنا .. فالحروب من دون صورليست بحروب ... لكن تصويرروبورتاج حي لعملية إغتيال أوعملية كوموندو لتحريررهائن قد يسهم لامحالة في دعم قضية ما من القضايا ، ولقد صاربإمكاننا اليوم إعادة مشاهدة كل هذه المشاهد بواسطة فيديوهات الإنترنت لمرات عديدة .
3 ــ زمن الإنتشار: إن خبرا ما قد يندلع في كل جهات العالم في ساعات قليلة بينما تفنيد نفس الخبر بعد أيام قد لاتكون له قيمة إعلامية هامة ... أما على الشبكة العنكبوتية فإن أي خبرعابرومدمر قد لاننتبه إليه مع أنه قد يزعزع كياننا من تحتنا في السر في الوقت الذي قد يمررعلى شاشة التلفزة وقد يكون وقعه علينا بحدة أقل .
كل وسيلة من وسائط الإتصال تفرض تراتبية لموادها ولمواضيعها حسب درجة المصداقية والإثارة وتعدد الحجج الثابتة .. إلخ بأساليب خطابها ، بذاكرتها ، بتوقيتها وسياحتها الجغرافية وعلاقتها بالمتلقي . طبعا لاأحد يمتلك الحقيقة أكثرمن غيره لكن لكل أخصائي إعلام طريقة إشتغاله الناجعة أو طريقة إشتغاله السيئة .. ولكل شكل من أشكال التغليط الإعلامي مؤشرللتفوق والجودة الخاص بكل وسيلة من وسائل الميديا التي تبثه .. وإنطلاقا من تراكم التجارب فإن محررا في جريدة ما يشتغل تحت إكراهات أو تحت التأثيرأوأي شاهد عيان أوأي محرك من محركات البحث الشبكية أوغيرهم يملك مفاتيح التفوق والسيطرة على الرأي العام . إن عولمة الخبروانتشارالتلفزة قد يوهمنا بأننا نتوفرعلى الوسائل الناجعة واللائقة لإقناع الجمهور.. أليس بإمكاننا أن ندس أو نزرع صورا في أي قناة إعلامية ثم نتأكد بعد ذلك أنه قد تم الإستناد إليها من دون شك في العالم أجمع .؟ إن الرغبة والجشع في إمتلاك المعلومة والخبرليس هو رهان كل الرهانات الإعلامية ، وكما قال (جون أركيلا) ليس من يملك أخطر قنبلة ويتدجج بها ويمضي إلى الحرب هو من سيربح المعركة وإنما المنتصرفي المعركة اليوم هو من يفجر خبرا مسموما وخطيرا في أوساط الرأي العام .
إن الصورة المدهشة والمثيرة .. المختزلة .. المنشورة بسرعة قد لاتترك لنا وقتا للتفكيروالتعليق عليها كأن نقول مثلا : أجل لقد شاهدتها إنها ذات مصداقية ولايمكن ضحدها مقارنة مع جملة تأتي في سياق مقال صحافي ، كما أنه يسهل علينا إعادة توجيهها بشكل مخادع عن طريق تعليق أو توظيف ماكر أوتوضيب . أليست الصورة وسيلة ذات فعالية ؟. التلفزة هي وسيلة ميديا للإدانة والإستياء بامتياز، فكيف نقاوم شعورالحزن ونحن نشاهد طفلا لاجئا في هذا المخيم أو ذاك ، لكن هذه الصور قد تعلمنا أحيانا بأن آلام الإنسان ومعاناته في أية جهة من العالم لاتعني بالضرورة صدق قضيته .
يلاحظ أحد المهتمين أن هناك شهداء عبرالتاريخ قتلوا ضحية صدق أوعدم صدق قضاياهم وأن البشرية لم تهتم بهذا الأمركثيرا في الماضي البعيد ، في ماض سيطرت فيه الكتب أي قبل ظهورالتلفزة بمئات السنين . وفي الوقت الراهن ، إن تراتبية خبرما وأهميته ترتكز أساسا على كونه في الغالب خبرا عاجلا. فأي إحتجاج أو تظاهرة تنقل مباشرة عبرمختلف وسائط الإتصال قد تهم المشاهد الآن وفي هذه اللحظة بشكل أقوى من عشرات الحروب الطاحنة التي يصمت عن ذكرها الإعلام في مختلف مناطق التوتربالعالم . يقول الأخصائي الإعلامي (بول فيريليو) : إذا كان التغليط الإعلامي ثقافة باتت ضرورية، فأليس من الأجدى على الأقل إتباع حكمة الرواقي (ستوسيان) القديم الذي أمرصديقه بالإعتماد دائما على المشاهدة العينية !! من هنا يتبدى أن التلفزة تعتبرهي الأدات الإعلامية الأكثرتأثيرا على تحريك كل شيء راكد ...
هناك دائما سبق صحفي وهناك العديد من الصحفيين المستقلين الذي يدققون في أبسط الروبورتاجات ويبحثون عن العامل المشتبه به ، يبحثون عن العنصرالذي لم تنتبه إليه الجهات الرسمية . ونحن نلاحظ اليوم تهاطل الروبورتاجات تلوالروبورتاجات .. نتصاغى بيننا في ردهات القناة التلفزية .. نقوم بالتحقيقات والتحريات حول أهم القضايا التي تشغل الرأي العام .. نقدم برامج تهتم بقراءة الصورما يجعلنا أحيانا نتساءل عن الغاية التي جعلت الملاحق الصحافية مثلا في (الأوتان) تعترف علنا أنها قد بثت شريطا قصيرا وسريعا عن قصف قطارمما يجعل المشاهد يعتقد أن القطار قد قصف فعلا عن طريق الخطأ . أوإتهام التلفزة الصربية لإدراجها صورا قديمة لإبراهيم روكوبا ـــ الذي كان قد شاع خبروفاته ــــ بهدف جعل المشاهدين يتوهمون أنه ما زال على قيد الحياة وأنه يتفاوض مع السفاح (ميلوزوفيتش)
ونحن نلاحظ اليوم أن المشاهدين أصبحوا أقل إقبالا على المواضيع والمواد الإعلامية خلافا لما يظنه الصحافيون وكل المهتمين بالقطاع الإعلامي . إن الجمهوراليوم أصبح مشبعا بثقافة السخرية والباروديا والريبة أكثرمن أي شيء آخر وهوغالبا ما يتخذ موقفه عن بعد في تفكه وسخرية .. إنه قد بات جمهورا ميالا إلى ما يثير الضحك فقط .. وبصفة عامة فمواقف التأويل والقراءات التي يمكن أن يقوم بها هي أقل عمقا وجدية مما نتصورعادة وهو أمام شاشة التلفاز.
إن أية عملية تغليط للرأي العام معزولة لن تكون لها أهمية أوقيمة إذا واجهت تيارا مضادا مسيطرا في معسكرالخصم المناوئ لها .. فكل محاولة لتعبئة الرأي العام من خلال صورحقيقية أو مزيفة أوموضبة بذكاء رقمي وإلكتروني ويحتمل غالبا أن تواجه رد فعل ، يلزمها أن تتوفرعلى فسحة زمنية شاسعة وأن تتوفرعلى عوامل الإثارة القوية .
كل خبرأو معلومة هامة وازنة وفعالة قد تلغي سيل المعلومات والأخبارالمتدفق معها ، ما يعني أنها تفرض حقيقتها ورقابتها . فلاأحد مثلا اعترض على بث صورلجثث مقطوعة الرؤوس في حرب الشيشان اوعارض إنجاز روبورتاجات عن متمردي (التاميل ) في سيريلانكا لأن العالم كان مشغولا في نفس الوقت بقضية الرهائن في الفيليبين . وعلى كل حال فقد بدأنا على الأقل نلاحظ شيئا من التوافق والتراضي الإعلامي حول ما يجوز وما لايجوز بثه من صورعبرالشاشة العالمية . إن قوة وسلطة التلفزة اليوم تتمثل في رهانها على خلق التمايز بين ماهومرئي وبين ما هو غيرمرئي ، بين عرض مواضيع ونقاشات أكثرمن الإهتمام بمحتويات هذه النقاشات ، بين ما نفكر فيه وما هو قابل للتفكير.
تبدو الشبكة العنكبوتية راهنا أنها المجال الذي تتصارع فيه المعلومة الجادة والهادفة ضد المعلومة السيئة .. فالإنترنت كان ومايزال يفتقد لقواعد المصداقية والحقيقة .. فما كسبته الإنسانية نظريا من تعدد مصادرالخبر قد تكون فقدته في عدم إستطاعتها على تنخيل المصادروالتفاعل مع ردود الأفعال .
كيف كان التغليط الإعلامي القديم يلعب دوره مثلما يلعب اليوم الخبروالمعلومة السيئة ؟
إن التقنيات الجديدة قد أسهمت في تسهيل وهشاشة التغليط الإعلامي وهذه السهولة والهشاشة بلا شك تنموان وتتفاقمان يوما بعد يوم . التقنيات الجديدة قد ميعت الإنتاج الإعلامي وسهلت صناعة الخطأ بما فيه الصورة الرقمية القوية والمغلطة التي توفرها الكثيرمن البرامج المعلوماتية . فإقحامها وترويجها على الشبكة العنكبوتية وأحيانا بواسطة مصدرمجهول وبسرعة أقوى من سرعة أضخم وسائل الميديا العملاقة ما يجعل هذه الصورة في متناول رواد الشبكة العنكبوتية ، ولم تعد الحاجة كما بالأمس إلى طابعة ومكتب ولم نعد في حاجة إلى عرض مقالنا على سكرتيرالتحرير أومديرالجريدة أومديرالنشر.
الإنترنت يسهل أيضا ترويج البرابجاندا (الدعاية) فهوالساحة الملائمة لها ، لأن الشبكة النتية تقفزعلى الحدود وتتغاضى عن كل أشكال الرقابة .
أما عملية التلقي فلم تعد تقف أمامها عوائق : فأينما إنتقلت تجد ركاما هائلا من المعلومات وتبادل للمعلومات بين المواقع الإلكترونية ووسائل الإتصال الكلاسيكية والمشهد برمته لايشجع عموما على الفكرالنقدي .
في الفضاء الشبكي ليست هناك حدودا أو رقابة لإيقاف الإشاعات و(البرابجاندا) ولا أحد بقادرعلى مراقبة هذا الطوفان من المعلومات في وطنه .
في هذا العصرالشبكي فسرعة الإشاعة سرعة مدوخة وغريبة ، لكن الرد على هذه الإشاعة قد لا يتمكن من إنجازه المتضررون منها .
إن الهشاشة هنا سيكولوجية ووسائطية .. لقد أصبحت المؤسسات أكثرحساسية اتجاه رياح الرأي العام الداخلي والدولي . الرأي الذي تضخمه الإستطلاعات أووسائط الإتصال التي تعزف الكثيرمنها على وترالأخلاق .. فالعديد من المؤسسات باتت مستقلة عن إطاراتها الخاصة .. البورصة قد ترتعد وتهتز بسبب إشاعة ما والأجواء بصفة عامة مستعدة لاستيعاب كل صورة من صورالإيحاء السيء لتحريك القوى الشعبية بسبب تهويل الكوارث وتعميم أخطار التقنية أوإلإبتزازأوالمساومة في أسرارالدولة وإفشائها للرأي العام .
لقد تغيرت الأهداف والغايات من وسائل الإعلام اليوم . فإذا نظرنا إلى الجانب الإيجابي منها قد نجد لها مبررات اللجوء إلى التغليط الإعلامي واللجوء إلى أسلحة أخرى أقوى فتكا من الأسلحة الجرثومية مايسمى اليوم ب ( حرب المعلومات ) . فعلماء الإستراتيجيات في البانتاغون يتصورون سيناريوهات محتملة لشل البنية التحتية المعلوماتية لعدو مفترض وإعداد عمليات للهجوم السوسيوسيكولوجي على رأيه العام وهذا أمرقد يفرز ظهورأعداء فاعلين جدد ، الفاعلون الذين قد نجهل ما إذا كانوا سيتحركون في خدمة الدولة أو المؤسسة ، أم هم مجرمون أم مناضلون حقيقيون أم هم أشخاص يبحثون في تجارب ضارة بالرأي العام كإشاعة خدعة أو بهدف تحقيق إنجاز تكنولوجي هدام أو تنفيذ هدف سياسي لديهم كالنيل من حكومة او فئة او مجتمع بكامله .
إن الإنترنيت يعتبرمثل (ناقل) (ميديوم ) لعدوى الرسائل ومختلف الميساجات من شخص إلى آخر أو من جماعة إلى أخرى مثلما هو الشأن بالنسبة لفيروسات العدوى التي تنقل من مرسل إلى مرسل إليه .. هي عدوى المصادر.. عدوى التيمات .. وظاهرة النصوص المترابطة ليست سوى شكلا من أشكال هذا الإنتقال (الوبائي) للأفكار.
ماهي الوسائل والشروط التي تساعد على تكريس هذا المشهد القاتم للشبكة العنكبوتية؟
بداية هناك سهولة النشر. فالإطلاع على توجهات وحرارة الرأي العام باتت في متناول كل من يمتلك جهاز(موديم) . والإنترنت يختلف عن وسائط الإتصال الكلاسيكية ، فالخبروالمعلومة كيفما كانت دوافعها ومحتواها ليست بحاجة إلى تمويل أوموارد مالية للنشر( ليس هناك قسم تحريرأو أستوديوأو نظام تناوب في الشغل أو أوراق أو أقلام أومراسلون أو جمهورا منخرطا في قناة تلفزية مستقلة ) وليست هناك معاييرمهنية أو إحترافية وليس هناك مدراء نشر أو رؤساء تحرير للقص أوللتحقق أو للتحري وليس هناك مصفاة للمعلومات وأخيرا ليس هناك ما يشبه الجريدة أو مايشبه صوتها وصداها وخطها التحريري أو مايشبه أخيرا عقدا مع قرائها ومقتنيها . وإذا كان بإمكاننا اليوم أن نقول كل شيء وبكل حرية فعلينا أن نتوقع دائما أن كل شيء يمكن ان يزول ويفنى في الشبكة العنكبوتية ، فالمواقع الجادة والهادفة قد تستقطب ايضا متهورين ، لأن الأنترنيت يمنح الفرصة للمتفوقين مثلما يمنحها للمبتذلين لاجتذاب القراء.
وبما أن الإنترنت هو الفضاء الأمثل للنسخ واللصق وبما أن أي مقولة بل أي نص مترابط تتعدد وتتناسل في بنيته المعلومات السيئة كما المعلومات الجادة فمن الصعب أن نضع أصبعنا على مصدرها وإقتفاء طريقها.
إن الإنترنيت عادة ما يتسبب في خلق الدارة المفتوحة ، والدعاية تتنقل فوق إعتبارات الزمن ووسائل التفكير والتحري أو النقد وردود الفعل . إن أي جريدة ورقية لديها يوم واحد أوأكثرمن أجل كتابة مقال من المقالات ، أما الخبرالتلفزي فتلزمه فقط بعض الساعات لكي يتوفرعلى صوروشرائط فيديو وتوضيبها ثم تقديمها للمشاهدين مرفوقة بالتعليق .
يشتغل الإنترنيت في الزمن الواقعي إذ لايتطلب الأمرأكثر من بضع دقائق لكي يقرأ كل سكان الكوكب الأرضي أي كتاب تم حجزه ومصادرته من المكتبات . إن هذا الكتاب لن يتعرض لنفس الرقابة على الإنترنت ..فالشبكة العنكبوتية لاتنسى أي شيء .. كما أنها تتذكر كل شيء .. توثق كل شيء وتمحو كل شيء في نفس الآن .. ليس هناك أسهل من إستغلالها بشكل أفضع وبشكل أسهل أيضا ، وأخطرمن كل هذا إستثمار ركامها من المعلومات والوثائق المشكوك في مصادرها اوحقيقتها . أما على المستوى الثقافي فالإنترنت يمكن المتلقي من المعلومة والخبر بيسر وسهولة ، فرواده المجتمعون فيما بينهم وعن بعد بدافع رغبة جماعية قد يشكلون وسطا ملائما لنشرحقائقهم الخاصة وغيرالرسمية مثلما تنشرالإشاعات .إن التيارات ال(التقنوليبيرالية) المناهضة للمؤسسات المتواطئة مع ميثولوجيا (الأخ الأكبر) تجعل من مناضليها مناضلين حذرين من أي معلومة وأي خبرمعلوماتي أو أي مستقبل لكل نسخة بديلة . فالإنبهاربالتقنية لدى الكثيرين قد يبدو في رأي البعض نوعا من السذاجة خصوصا بالنسبة لأولئك الذين يرددون دائما : ( هذا شيء حقيقي وصحيح لأنني عثرت عليه في الإنترنت ) وفي عصرنا الذي يوسم بعصررياح المعلومات العاتية فالشبكة العنكبوتية قد باتت هي الفضاء حيث توجد الأفكار، الدخيلة مثل السيارات المفخخة. هكذا نلاحظ أن أحدث وسيلة من وسائل الميديا قد تكون سببا في إحياء أقدمها على سبيل المثال ، فالإنترنت يغذي الإشاعة ، وهوالوعاء الأمثل لمحتوياتها لأن الإشاعة تهتم بالمواضيع المثيرة ، المستفزة ، المواضيع المتلاطمة والغرائبية وفي غالب الأحيان حول بعض التيمات الرمزية مثل المال المشبوه والمال المبيض المدسوس والتواطؤات على إختلاف ساحات نشاطها وتسميم الأفكاربين الناس إلخ ..
تفترض الإشاعة أيضا قدرا معينا من التماهي والتطابق مع الواقع الذي يحيط بها ، فهي قد تندد بجرم أو بفضيحة أوأنها تعيد سرد وقائع كارثة من الكوارث الإنسانية . إنها تتميز بندرتها وسريتها مما يضفي عليها قيمة في التداول حيث (هناك دائما فئة من الناس تعلم وفئة لاتعلم ) ، إنها تتغيى دحض حقيقة ما أو التعرض لصمت الجهات الرسمية وقد تكون أخطر وأضرارها أفدح حين تصدرعن جهات مجهولة بهوية مقنعة وغيرحقيقية . إذن كل الشروط والظروف قد توفرت واجتمعت لتجعل من الإنترنيت ساحة للدعاية والإشاعة المثالية .
إن تواجد الجماعات الشبكية التي تنهمك يوميا في البحث عن أبسط سبب لكي تنشرأوتعلق على خبرجديد أو تطلق فيديو مفخخ ، إن هذه الجماعات تشعر بقيمتها ومعنويتها ترتفع باعتبارانها قد إقتحمت مجال خبرجديد قبل أي مجموعة أخرى وبالتالي فهي تتصدرواجهة التلقي وقد تؤثرفي الرأي العام كما تشاء... لقد صدق ( ماك لوهان ) حين أطلق مقولة (القرية الصغيرة) ويعني بالقرية الصغيرة العالم اوالكوكب الأرضي بصفة عامة .
التغليط الإعلامي : طرائقه وتاريخ الكذب المضاد .
من يقول التغليط الإعلامي يقول بكذب الآخرمثلما تعني الإيديولوجيا خطاب الآخر. وبما أننا محاصرين بآفة التغليط الإعلامي من الجهات الأربع فإننا في الأخير قد نغض الطرف عن كل ما يتناقض مع قناعاتنا . بمعنى آخرأنه بصمتنا قد نصبح نحن كذلك متواطئين ومتآمرين لأننا قد ساهمنا في تلفيق وحقن سم الكذب في جسم المتلقي علما أنه ليس باستطاعتنا فعل أي شيء لأن كل معلومة أو خبرهو خبرمتحكم فيه عن بعد وخارج إرادتنا ...
لايشتغل التغليط الإعلامي إلا إذا تم توظيفه من طرف جهة قد نتوهم أنها محايدة مثل جريدة أوصحيفة أو قناة تلفزية ذات صيت عالمي ومرجعية هامة .
كما لايتحرك التغليط الإعلامي من دون قناع أوأقنعة ، ومن الصعب على المتتبع أو حتى المهتم ان يميزبين عملية تغليط إعلامي حقيقية أومجرد خطأ إعلامي أوقد يكون هذا المتلقي ساقته سذاجته أوعماه الإديولوجي للتصديق بالخبرالمزيف والمفبرك . أحيانا قد نبررتصديقه هذا بسبب مؤامرة تروم التسترعلى حقيقة من الحقائق وأحيانا أخرى قد نجهل الإستراتيجيات الإعلامية التي نحن بتنا ضحية من ضحاياها.
ولتحليل الخبرالمغلط أو أي عملية على صورة كذبة أوسر من الأسرارالملفقة لابد من التأكد من حقيقة الإعلان عنه ، يعني القدرة على التمييز بين أطروحة المغلط الإعلامي من جانب ومحاصرة تلفيقاته الدعائية من جانب آخر. لكن تجب علينا البرهنة للتوصل إلى ضحد هذا الخبرالمغلط .
المعلومة المغلطة أيضا ليست إنقلابا على الحقيقة فحسب ، بل إنها تكتسب مسلسلا من الدعايات التي تختلف حلقاته من واحدة إلى أخرى مثلما هو الشأن بالنسبة للإشاعة التي قد تصبح حلقة من حلقات هذا المسلسل . ولأجل تفجيرمعلومة أو خبربقصد تغليط الرأي العام لايكفي التأكيد والإثبات فقط . يذكرنا (أرادنت أنان) أن علامة صحة حدث ما ليست متعلقة بعرض نقيضها من خطأ أو لبس ولكن بعرض براهين التزييف المتعمد أوالإفتراء والكذب ... الجهة الكاذبة أوالمفترية هي جهة مفترية بطبيعة عملها واهتماماتها وتكوينها .. فهي تنطق بما لايمت إلى العقل بصلة لأنها تروم أن يصيرالواقع بعكس ما هوعليه . بمعنى أنها جهة تركب التغليط لتغيرالعالم بالكذب . إنها تستفيد وتستغل الإستعداد السيكولوجي للمتلقي على الإنفعال ثم رد الفعل من أجل تغييرالواقع من خلال تلك القدرة الفائقة والساحرة التي تجعلنا نقول بكل حرية ( هذا يوم مشمس ) في حين أنه في الواقع (يوم ماطر) إنها إذن المعلومة المغلطة التي يعتبرها البعض وسيلتهم المشروعة لتغييرالعالم .
إن ساحات المعارك والحروب هي فضاء الخبرالمغلط والمفضل بامتياز، فبعد إنتهاء كل توترأو صراع سياسي أو إثني مثلما حدث في الفيتنام أو المالوين ، في الخليج ويوغوزلافيا وكوسوفو بعد أن تضع الحروب أوزارها ، يتم الكشف دائما عن المقابرالجماعية ثم توثق الشهادات والتقاريرالمفصلة لتقدم للصحافة على إختلاف وسائلها ، بتعبيرآخرنتساءل لماذا لم تواكب هذه الوسائل الإعلامية هذه الجرائم الإنسانية الحربية على الساحة لحظة وقوعها .
والتغليط الإعلامي في صورة أخرى هجوم سلاحه وسائط الإتصال فهو يكشف عن علاقات بين منظمات مجهزة : ( أحزاب ، نقابات ، مؤسسات ، معسكرات ...) لكنه في جانب آخرإنه تغليط ينجز بفضل آليات تقنية بالأساس ، فليس غريبا أن نجد أنفسنا بين نظامين لانتشارالأخبارفي كل أرجاء العالم
وفي أسرع وقت : نظام (الماس ميديا) من جهة ونظام التكنولوجيات الجديدة للإعلام والإتصال من جهة أخرى . وإذا كان التغليط الإعلامي ليس دائما سهلا للبرهنة والإنجازفي بعض الحالات فذلك لأنه ظاهرة إستراتيجية وتقنيات تكنولوجية بالأساس يجب أخذها بعين الإعتبار.
يعرف القاموس الأكاديمي الفرنسي في طبعته لسنة 1980 التغليط الإعلامي كما يلي : توريط الرأي العام في صورة خاطئة من أجل إضعاف الخصم . وهذا يستدعي توفرأربعة شروط للمعلومة المغلطة:
1ـــ تغليط الخطاب .. عن سبق إصرار وترصد الجهة المعلنة للخطاب .. تقديرحجم الخسارة التي يمكن أن تلحق الخصم .. وجود جمهورمتلقي مغرربه ,
2ــــ يتوقف التغليط الإعلامي على إشاعة متعمدة أومعلومة خاطئة قصد التأثيرفي الرأي العام وإضعاف الخصم .
3ــــ الإشاعة هنا والترويج لها شيء أكثرأهمية من الشفهية أوإستعمال الخطابات الخاصة إذ يجب اللجوء إلى وسائل الميديا وإلى حاملات (صواريخها) المدمرة .
وحين نقول بأنها متعمدة فهذا يعني أن الفاعل عليه أن يحدد غاياته بالرغم من كون المتلقين والمذيعين والمشيعين للمعلومة المغلطة يجهلون بخطته وغاياته الحقيقية ، فالجهة التي تكذب على نفسها بسبب خطأ اوبسبب عماها الإيديولوجي لاتقوم بالتغليط فحسب وإنما أيضا بإشاعة الخبرالمغلط.
المعلومات والأخبارتعني أساسا علاقة مخصوصة بالحدث ووصف للواقعة وليس الإقتصارعلى الآراء والأحكام الأخلاقية البسيطة . هدف التغليط الإعلامي هو وصف الأحداث الوهمية والخيالية ، وكلمة (ملفقة) تعني إعتمادها على إثباتات مضادة للواقع وقد أعيدت صناعتها وتأطيرها بطريقة لاتتفق والتفسيرات المنطقية .
يتعلق الأمرإذن بخطابة بسيطة أو بمبالغة إلخ .. لاتشكل مخططا للتزييف ولا تتعلق ببناء أوشرح للواقع بواسطة صورة نمطية أو فئة إيديولوجية ... إن الكذب في منظومة التغليط الإعلامي يرتبط بالواقع الذي يعمل على وصفه أو يتعلق بالشخص أو يتعلق بانتماء سياسي أومذهبي بهدف خلق خطاب قادرعلى إرتكاب أفدح الخسائروالأضرارفي صفوف الخصم ... هذا ضرب من الكذب المضاعف ولعبة ترتكز على ثلاث فاعلين : 1 المعلن 2 الجمهور3 الضحية .
والتغليط الإعلامي يستدعي العديد من الوضعيات وبناء سيناريوهات تتماهى مع الواقع وبذلك فهو يرسم حدودا بين التزويرواللبس البسيط والحقيقة .
إن التأثيرعلى الرأي العام يعني البحث على فرض نوع من الثقة والإيمان والتصديق أو فرض مواقف على الجمهوربدل فرض قرارعلى المسؤولين الرسميين بالرغم من كون هذان الطرفان ـــ العامة والمسؤولون ـــ قد يتكاملان في بعض الأحيان . إن هذا الجمهورالعريض يمكن أن يجسد رأي الخصم أيضا أو رأي الحلفاء أو رأي المحايدين أوحتى الرأي العام الدولي بصفة عامة . إذن التغليط الإعلامي قد يستهدف الجمهوركله أو بعض الدوائرالضيقة المستهدفة .
وقد يتميزعن التسميم الإعلامي الذي يعني التزييف المتعمد لقرارالخصم ، والتغليط لايتحقق إلا إذا تفجرفي فضاء عام كساحة للنقاش وتعدد للآراء وتبادل للمعرفة ، ولن يكون له معنى سوى ضمن فضاء تنافسي خاص لمصادرالمعرفة والعلم واختلاف التأويلات .
من المعلوم أن (الأخ الأكبر) منزه عن تغليط الرأي العام ، إنه يراقب الحاضروالماضي والمستقبل .. يراقب اللغة ... ففي أي نظام شمولي هناك الحقيقة الرسمية والإشاعة المنحرفة ... الديكتاتوريملي ما يجب أن يعلمه الشعب وما يجب أن يقوم به الشعب ولمقاومة غطرسة سياسته ليس هناك من سبيل سوى اللجوء للإشاعة المنحرفة ضد أية معلومة حقيقية تدعم نظامه الديكتاتوري . التغليط الإعلامي لايتحقق إلا إذا كان هناك وعي حقيقي وكامل بالواقع وليس بالخيال المطلق حيث تعم الفوضى المتعددة .
ــــ إضعاف الخصم :
إن التغليط الإعلامي هو أذات تستعمل في مرحلة صراع ما ، وهو يصلح للتقليل من القدرات الهجومية للآخروهذا يتحقق إما عن طريق خلق إنقسام في معسكر الآخر/ الخصم أوعن طريق كبحه معنويا من خلال الفوضى وهذا المخطط المقصود يتغيى خلق خسائر وأضرار في جبهته وبذلك فالتغليط الإعلامي يكون دائما ذونتائج وخيمة وسلبية وعدوانية كما أنه يختلف عن الإعلانات التجارية ويختلف كذلك عن التلقين المذهبي والعقائدي حيث الأهداف تروم خلق تآزروتعاطف بين الفئات المجتمعية ولهذا فهو يلجؤ إلى توريط الخصم في ردود فعل غيرمبررة وإلى قلب صورته نحو أسوء الإحتمالات وبتعبيربسيط فهو
يصعد من وتيرة اللبس والغموض أي يصيرهو ضد الخبر بالمعنى الإيتيمولوجي أي وضع الأشياء في إطارالمعرفة وهذا يتحقق من خلال بعدين هما : من جهة أولى على شكل مقولة إشاعة خاصة بالميولات والرغبات بشكل أكثرإنتشارا كالوباء مثل الحقد ومن جانب آخرمثل تمثيل خاطئ ملتبس خال من أية حقيقة . إن بعض الهذيان الإيديولوجي والوهم الذاتي والإنغلاق المعلوماتي ، التأويلي والكثير من الأشكال الخيالية التي تزخربالأمثلة العديدة هي كذلك تشكل نوعا من التغليط الإعلامي ومع هذا فهي غيرمسددة إلى صدرالخصوم .
يختلف إذن التغليط الإعلامي عن الكذب والخداع والتسميم والخرافة والإشاعة والإعلانات والضجيج الخاطئ والتلفيق والتفخيخ والخطابة والدعاية بالرغم من كونه قد يتماهى أحيانا مع بعض هذه المظاهر.
التغليط الإعلامي بعد الحرب الباردة :
هوعمل تكتيكي قام ضمن الأوركيسترا الإستراتيجية ل(لبراباجندا) وهو ــ التغليط الإعلامي ــ مهدد دائما في حقبة المواجهة بين الشرق والغرب ، غيرأن عالم الأمس لايشبه عالم اليوم . والأمثلة العديدة للتغليط الإعلامي والتي نسوقها ونثيرها دائما مثل كذبة أفول النازية .. الصراعات السياسية والإثنية الإفريقية .. كذبة مختبرات (السي إي إي) التي تسببت في إنتشار فيروس الإيدز إلخ .. لايمكن لكل هذه الأمثلة أن تعمل وتوظف إلا في إتجاه مستهدف ومقصود، فلم يكف تعدد الأخبار والمعلومات في المعسكر الخصم وتتابع العمليات من أجل زرع المعلومات المرغوب فيها وبطريقة مباشرة ولكن أيضا هناك عملية تلقي لقسط وافر من الرأي العام الغربي الذي كان مهيئا سيكولوجيا واجتماعيا وسياسيا للإيمان والتصديق حسب الوضع الطارئ الذي أفرزه خطرالنازية وغطرسة الإمبريالية الأمريكية في مختلف مناطق التوتر.
أخيرا إن التغليط الإعلامي الصرف لاوجود له ولن يكون له معنى إلا إذا كان هناك زبناء مستعدون للإنخراط فيه وباختصارشديد فقد كان مظهرا لمرحلة للدفاع الإيديولوجي العام . وهذا لايوافق سوى وضعا للحرب الباردة التي تجاوزها العالم اليوم بما كان لها من خسائروأضرار، ورغم إخمداها وتجاوزعقدها السياسية، والإقتصادية والإجتماعية (هدم حائط برلين) فالتغليط الإعلامي السياسي لم يتراجع ولم يختف مع إختفاء الإيديولوجيات المبنينة . إن الحروب التي تنشأ عادة من تعدد الآراء واحتدام العقائد تستدعي دائما سلاح التغليط الإعلامي بشكل منتظم من دون أن يخرج دوره عن نطاق الدورالتكميلي والإضافي لوسائل هجوم محايثة .. إن دوره يختزل في تجريم الخصم وقد يعهد تنفيذ هذا الدورإلى التقنيين الذين يعملون على شيطنته والزج به في قفص الإتهام وإضعافه في نظرالرأي العام الداخلي والدولي %
|